[tr][td height="128" align="center" width="325" valign="top"]
منذ فجر البشرية كان الإنسان ميالاً بالفطرة للبحث عن سبل جديدة تجعل حياته أسهل وأكثر إنتاجية. وكان هذا المسعى يوصل الإنسان مراراً لابتكار أدوات جديدة تقلل من حاجته للجهد البدني في حياته اليومية ومعيشته. وبمرور الزمن وتراكم الخبرة أخذ الإنسان يوظف قدرته الإبداعية للبحث عن طرق تجعل هذه الأدوات تعمل من تلقاء نفسها. وهذه الرغبة هي التي كانت وراء تطورعلم "التسيير الذاتي" أو الآلة ذاتية الحركة.
[/td][/tr][tr][td height="134" width="559" colspan="2"]
وبغرض الإيضاح، سنشير فيما يلي بـ "الآلة ذاتية الحركة" عموماً لكل تصميم ميكانيكي يتميز بقدر ما من التشغيل الذاتي بعد بدء تشغيله. وبالتأكيد فإن قمة تطور هذا الآلات يتمثل بالروبوطات المعاصرة والمستقبلية، غير أننا سنبحث في هذه السطور في الإسهام التاريخي المهم الذي قدمه في تطور هذا العلم عالم مسلم في القرن الثالث عشر هو الجزري. ذلك أن فهم أهمية الدور الذي قام به هذا المخترع المسلم في تطور الآلات ذاتية الحركة أمر حيوي للإحاطة بالجذور التي تطورت منها علوم الأتمتة المتقدمة في عالمنا المعاصر.
لا نعرف بالضبط تاريخ مولد بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري. غير أن عاش قبل حوالي ثمانية قرون من الآن. كما أن لقبه، الجزري، يشير إلى مكان مولده وهي الجزيرة، تلك المنطقة بين الفرات ودجلة في العراق.
أمضى الجزري ردحاً طويلاً من حياته بعيداً عن موطنه يعمل في قصور حكام دياربكر في أعالي بلاد الرافدين، والتي توجد اليوم في تركيا، وبذلك فقد سار على خطى والده الذي عمل مطولاً لدى حكام دياربكر. طوال 27 عاماً تقريباً بين 1174 و1200 ظل يحظى برعاية أمراء ديار بكر وهناك تخصص في ابتكارات الهندسة الميكانيكية وأصبح كبير المهندسين الميكانيكيين في البلاط. كانت عقلية الجزري الابتكارية منسجمة مع الاتجاه الاجتماعي الثقافي السائد في العالم الإسلامي في ذلك القرن والقرنين السابقين له وهي الفترة التي شهدت عدداً من الاختراعات العلمية المهمة. ولحسن الحظ، فإن بعضاً من أفضل التصاميم الميكانيكية المعقدة للآلات ذاتية الحركة العاملة بالماء لاتزال محفوظة بتفاصيلها حتى اليوم في المخطوطات القديمة. ومن بينها آلات مثل الساعة المائية والآلات الهيدروليكية الأخرى التي ابتكرها الجزري وصنعها بنفسه.
استحق الجزري شهرته عن جدارة ليس لكونه مخترعاً ومهندساً ميكانيكياً فحسب. ذلك أن مجموعة المخطوطات المنهجية الموثقة التي وضعها عن أعماله ساهمت في ذيوع صيته وتعلق الناس بعبقريته طوال قرون من الزمان. وربما كان أشهر كتبه هو "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"
الذي أكمله في عام 1206. ولا غرابة أن بعض المصادر تشير إلى الكتاب باسم "الآلات ذاتية الحركة" فقط.
[/td][/tr][tr][td height="19" width="234"]
[/td] [td height="19" width="325"]
بدأ الجزري العمل على كتابه هذا بطلب من السلطان نور الدين محمد. وبالتأكيد فإن الجزري كان من دواعي سروره أن يلبي هذا الطلب. وتحول كتابه إلى مصدر جامع لعلوم الميكانيك النظرية والعملية. وكانت الأوساط العلمية تنظر إلى الكتاب بإعجاب كبير وتعتبره الأكثر تطوراً في زمانه كما يعتبر نموذجاً لتطور الحركة العلمية الإسلامية وذروة إنجازاتها. كما قدم الجزري في عمله هذا أساساً لعدد كبير من التصاميم والوسائل الميكانيكية التي مهدت الطريق أمام الهندسة الميكانيكية كما نعرفها اليوم.
يصنف "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل" الأجهزة الميكانيكية في ستة فئات عامة وكان لهذا التصنيف أثر كبير على التصنيف الذي وضعه الأوروبيين في عصر النهضة وما بعد لهذه الأجهزة، إن لم يكن لشيء آخر فلأنه وضع في كتابه وصفاً شديد الدقة والاهتمام بالتفاصيل
[/td][/tr][tr][td height="327" width="559" colspan="2"]
لتقنيات بناء هذه الأجهزة. للإشارة فحسب، فإن السبب الوحيد وراء الظهور المفاجئ لتصاميم المضخات الماصة في مخطوطات مهندسي عصر النهضة الأوروبية هو أنهم أخذوا الفكرة جاهزة من المهندسين المسلمين، الجزري على وجه الخصوص، الذين كانوا يصنعون هذه المضخات قبل وقت طويل من عصر النهضة ومنذ العصور الوسطى. بل إن البروفسور لين وايت يشير إلى أن تصاميم التروس القطعية قد ظهرت لأول مرة في مخطوطات الجزري بينما لم تعرفها أوروبا إلا في ساعة جيوفاني ديدوندي الفلكية التي صممها بعده بزمن طويل وتحديداً عام 1364 كما أن كتاب الجزري كان أول عمل يتحدث عن ذراع الكرنك، أي قبل 300 عام من استخدام المهندسين الأوروبين له لأول مرة، وقد كان ليوناردو دافينشي أحد أوائل المصمميم الذين استخدمو هذا الابتكار.
ونجد في كتاب الجزري تصاميم لأكثر من 50 آلة أخرى وبينها ساعات مائية وآلة لغسل اليدين سماها "آلة الوضوء" وربما يكون أكثرها أهمية هي آلات ضخ الماء.
أول آلتين لضخ الماء وصفهما الجزري كانتا مطورتين من الشادوف. التصميم عبارة عن قادوس لجمع الماء يتصل زراع مائل. ينزل القادوس داخل الماء وحين يرتفع الزراع يصب القادوس محتواه في قناة داخل الذراع الذي ينتهي بمصب فوق قناة الري. وكانت الحيوانات تستخدم لتشغيل هذه الآلات وضخ الماء في السواقي.
آلة ضخ الماء الثالثة التي ابتكرها الجزري كانت نموذجاً مطوراً من الساقية غير أن الماء هو نفسه الذي يشغلها. وفيها يدوّر تيار الماء ناعورة تقوم بدورها بتشغيل سلاسل من القدور التي ترفع الماء للأعلى عبر مجموعة من التروس المتعامدة. وأحد النماذج الشهيرة عن هذه الآلة كان يوجد على نهر يزيد في دمشق في القرن الثالث عشر حيث كانت تضخ المياه لأحد مستشفيات المدينة.
آلة الضخ الرابعة كانت تستخدم ذراعاً أنبوبياً وتعمل بقوة الحيوانات. غير أن الذراع يرتفع وينخفض في هذه الآلة بنظام معقد نسبياً يتصل بكرنك عبر مجموعة من التروس. وللعلم كانت تلك الآلة هي الأولى المعروفة في العالم التي تستخدم الكرنك. وللمقارنة فإن الآلة الأوروبية التي استخدمت الكرنك لم تظهر إلا في القرن الخامس عشر.
آلة رفع الماء الخامسة التي ابتكرها الجزري كانت تعمل بقوة الماء أيضاً. وفي هذه المضخة تدور ناعورة لتدّوِر ناعورة أخرى عمودية والتي تدور بدورها ناعورة أفقية ثالثة. الناعورة الأفقية متصلة بكباسين نحاسيين متقابلين يتحركان حركة مستقيمة دورية. أما الأسطوانتان اللتان يتحرك الكباسان فيهما فمتصلتان بأنابيب لمص الماء ثم صبه. أنابيب المص تشفط الماء من مصدر الماء أسفلها، فيما أنابيب الصب تصب الماء عند نقطة ترتفع 12 نتراً عن الآلة، وهو إنجاز مثير للعجب. كانت تلك الآلة الأولى في العلم التي توظف عملياً نظرية الفعل المزدوج، أي فيما أحد الكباسين يشفط الماء يضخ الكباس الآخر هذا الماء نحو فتحة السقف.
[/td][/tr][tr][td height="177" align="center" width="559" colspan="2"]
[/td][/tr][tr][td height="176" width="559" colspan="2"]
الشروحات التي قدمها الجزري عن تصاميم آلاته في كتابه كان من السهل فهمها واستيعابها للوضوح الشديد في وصفها. والرسومات التوضيحية في الكتاب غالباً ما توضح تصميم الآلة في وضع التشغيل. على سبيل المثال أحد الأوصاف يتحدث عن آلة ذاتية الحركة لامرأة عربية تملأ ثم تفرغ حوضاً للغسيل وآخر يصور ساعة متطورة على شكل فيل.
يقدم الكتاب تصاميم ساعات مائية تستخدم الكرات المعدنية التي تشير إلى الوقت كل ساعة بدق صناجات. وفي أحد هذه الساعات تسقط الكرات المعدنية من فمي صقرين كل ساعة على صناجات تحتها. تستخدم ساعة أخرى شلالاً مائياً منحدراً لإطلاق الكرات المعدنية.
إلى جانب الشروحات والرسوم التوضيحية المفصلة يعتبر كتاب الجزري عملاً بالغ الأهمية من وجهة نظر عملية باعتبار أن مؤلفه كان فعلياً مهندساً ميكانيكياً خبيراً. وقد قدم شروحاته بطريقة تجعلها شديدة الوضوح لقرائه. فليس هناك مجال للتخمين من جانب القارئ حيث يشرح النص بكل وضوح كل تصميم حتى أصغر التفاصيل. يقول دونالد هيل وهو مهندنس بريطاني تخصص في التقنيات العربية التقليدية: "تحتل أعمال الجزري أهمية بالغة في تاريخ الهندسة، حيث تقدم ثروة من مبادئ تصميم وتصنيع وتركيب الآلات. وفي عام 1976 كرّم مهرجان العالم الإسلامي الذي نظمته المملكة المتحدة الجزري وعرض متحف لندن للعلوم نسخة كاملة من ساعته المائية الشهيرة وهي تعمل أمام الزوار.
خلاصة القول، إن الإنسان ليقف باحترام كبير أمام عبقرية الجزري وهو ينظر إلى أعمال هذا المهندس المسلم الذي عاش في القرن الثالث عشر. ولعل الخيط الناظم لكل اختراعاته وابتكاراته هو أنها هدفت لتحقيق هدف جوهري: جعل أعمال الناس أسهل. ابتكاراته كلها اتصفت بعمليتها وكفاءتها البالغتين. ورغم أنه عاش تحت رعاية الأمراء والملوك، فقد استخدم عبقريته لتسهيل حياة الناس العاديين، رجالاً ونساءً، في كدهم اليومي.
كلام صورة
واحدة من مضخات الجزري: باستخدام أقدم أنبوب مص عرفته البشرية في مضخة وظف الجزري مبدأ الفعل المزدوج وتقنية تحويل الحركة الدائرية إلى حركة مستقيمة دورية. وقد لعبت هذه التقنية دوراً جوهرياً في تطوير المحرك البخاري والمضخات التبادلية الحديثة.
[/td][/tr]