ديوان الشرق والغرب : موسيقى على درب السلامعلى خشبة أوركسترا كولونيا الفيلهارمونية تسود بلبلة لغوية عظيمة، فالموسيقيون الشبان الذين لا يتجاوز عمر معظمهم العشرين عاماً يأتون من إسرائيل وفلسطين ومصر وبلاد عربية أخرى. ولكن بمجرد أن يدخل المايسترو دانيال بارنبويم خشبة المسرح ويرفع عصاه، يخيّم الصمت التام، وتنشأ لغة واحدة توحّد بين جميع أفراد الأوركسترا: الموسيقى. وفي هذه الحالة: بيتهوفن.
استلهام روح غوته
وكان بارنبويم - الذي ولد في بوينوس أيريس لوالدين يهوديين من أصول روسية - قد أسس الأوركسترا عام 1999 مع الناقد الراحل الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد بهدف تعزيز قيمة التعايش السلمي في منطقة الشرق الأوسط، والتقريب بين العازفين العرب والإسرائيليين عن طريق الموسيقى الكلاسيكية. وتحمل الأوركسترا عنوان ديوان غوته المشهور "ديوان الشرق والغرب"، المعروف أيضاً باسم "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" والذي نظمه غوته بعد لقائه بالشعر الفارسي والعربي.
بارنبويم يؤكد دائماً على أن مشروعه ليس سياسياً، رغم ذلك فالسياسة حاضرة بالطبع في كل لقاء يجمع بين أفراد الأوركسترا العرب والإسرائيليين. ويقول بارنبويم إنه "يحق لجميع أفراد الأوركسترا التعبير عن رأيهم، ونحن لا نتوقع أن يقتنع كل شخص بوجهة نظر الآخر. ولكن على كل فرد أن يفهم أن فكر الآخر يستند إلى منطق ما، وينبغي عليه احترامه". ولا تخلو يوميات الأوركسترا من مشاجرات صاخبة بين أعضائه في بعض الأحيان، رغم ذلك يقول بارنبويم إن "الديوان" أنجز "تقدماً كبيرا" في مجال التفاهم.
سوريون وإسرائيليون يعزفون معاً
في الأوركسترا يلتقي إسرائيليون لأول مرة في حياتهم بعرب، والعكس صحيح. يقول بارنبويم إنه يحدث كثيراً أن يأتي مكان جلوس أحد العازفين الإسرائيليين بجانب عازف سوري. في البداية قد يعتقد كل منهما أنه يجلس بجانب وحش خطير، ولكن بمجرد أن يبدأ العزف ينسى العازفون كل شيء، ولا يفكرون إلا في الموسيقى. وبعد سبع أو ثماني ساعات من التمرين تتولد خبرات مشتركة وتنشأ مشاعر جماعية، ويشعر العازفون بالاحترام تجاه بعضهم البعض.
يختلف الوضع بالطبع فيما يتعلق بالقضايا السياسية. لكن العمل في الأوركسترا أضحى بالنسبة لمعظم العازفين جزءاً راسخا من حياتهم. ويشعر بارنبويم بالإعجاب تجاه شجاعة الموسيقيين الشبان، فبعضهم يجد نفسه في عداوة مع أصدقاء سابقين لأنه أصبح يعزف الموسيقى مع من يسمون بـ"الأعداء".
الصراع في الرؤوس
وينظر الموسيقار البالغ من العمر ثمانية وستين عاماً نظرة إعجاب إلى الانتفاضات التي تعيشها بلدان عربية عديدة، ويعتبر كفاح الناس من أجل التغيير والحرية "خطوة شجاعة" على طريق المستقبل. ويقول بارنبويم إن حلمه كان منذ لحظة تأسيس الأوركسترا تقديم حفلات في الدول التي نشأ فيها العازفون؛ وهو يأمل بعد اندلاع الثورات العربية أن يتمكن من تحقيق هذا الحلم.
وبالنظر إلى التطورات الأخيرة في سوريا والتوتر الذي شهدته الحدود المصرية الإسرائيلية، فإن بارنبويم ينظر إلى المستقبل بتفاؤل حذر. وبالطبع فإن الصراع في الشرق الأوسط "حاضر باستمرار في رؤوس العازفين". ورغم اختلاف الرؤى السياسية للعازفين، فإنهم جميعاً يتفقون على أن الصراع العربي الإسرائيلي لا يمكن حله بالوسائل العسكرية.
صحيح أن الموسيقى لا تقدم حلاً للصراع، غير أن أوركسترا السلام الشرقي الغربي يبين أن شباب المنطقة يمكنه أن يجد لغة مشتركة إذا أتيحت له فرصة اللقاء والتعارف. "إن فرقتنا الموسيقية تقدم فكراً بديلاً للفكر السائد في الشرق الأوسط في الوقت الحالي"، يقول بارنبويم. ويضيف المايسترو المرشح لجائزة نوبل للسلام: "على جميع السياسيين أن يدخلوا مدرسة الموسيقى، ليتعلموا شيئاً مهماً، ألا وهو فن الإصغاء!"
LENA