الحشود.. والجنود: سطوة القوة ..بـإسم الشعب أم بإرادة الناخبين
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
- تصاعد اللامركزية في حركة الشارع بالمحافظات المختلفة على خريطة مصر،والتي لم تكن تشهد هذه الدرجة من الاحتجاجات والحراك السياسي من قبل، والتي لاحظت شخصيا مؤشراتها منذ قطع السكك الحديدية في قنا أيام أزمة المحافظ ٢٠١١ حين ذهبت لفهم ما يجري..وجلست مع المجموعات على شريط القطار نتجاذب أطراف الحديث..والتفكير ، وما وجدته في محافظات مختلفة من بنيان قوي للقبائل..وما هو قائم في الدلتا من روابط عائلية وقَبَلية مترابطة ..وأنا لا أتكلم هنا عن قوة تيار سياسي ولا أقصد تهديدات فصائل مسلحة .. بل أتحدث عن مستوى الواقع الاجتماعي بشكل عملي يفرض الحاجة لاعادة لَم شمل المحافظات والقطاعات الأهلي المختلفة حول توافق مجتمعي وسياسي واضح دون استئثار نخب القاهرة المدنية والعسكرية والمتعسكرة برسم المسار المستقبلي دون أي مشاركة للمحافظات التي تعاني الاهمال ولم تحصل على أدنى استحقاقات ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ –و مهم إدراك أن عودة الشرطة دون تطوير في أداءها وعودة أمن الدولة لسابق عهده ستخلق مقاومة جتمعية شديدة وبصيغ مدنية مختلفة لمستها من فئات وقطاعات شتى. فجرائم النظام البوليسي لمبارك ما زالت حاضرة في الأذهان خاصة بين الفقراء والمستضعفين..وفي سيناء ومطروح والصعيد سمعت في أكثر من زيارة هموم القبائل..وشعور الشباب بالتهميش الاقتصادي وتجاهل العاصمة لمطالب قرى سوهان ونجوع النوبة في أسوان – وغير ذلك كثير في المحافظات.
...إن هناك -يا سادة - حدوداً للقوة وللسيطرة .. والسلطة السيادية لا تقوم على أدوات القوة وحدها أبدا بل تستند أصلاً وشرعية على توافق مجتمعي وثقافي في الحد الأدنى يشهد اليوم انحساراً ..وزاده تدخل الجيش في المشهد استقطاباً ،وهناك مهام للمؤسسات العسكرية في الدولة الحديثة وهناك منطق للمجتمعات ودورات حياة للقيم المدنية، والديمقراطية ليست وثناً لكنها آليات وصيغ توافقية على انتقال السلطة لتجنيب الشعوب ويلات النزاعات الأهلية..وصراع محتمل بين المجتمع والسلطة.استخدام القوة في حسم الخلاف يدفع ثمنه الجميع عاجلاً أم آجلاً..، والأمن الشامل الذي يحلم به المواطن المصري يحتاج خطة واضحة ومساراً محدداً..والكرامة والإرادة الشعبية لها مؤشرات ومسارات. وتعلمنا في الدراسات الاجتماعية أنه كلما قلت درجة التوافق على قواعد إدارة الثروة والسلطة ارتفعت درجة العنف..سواء أكان عنف الدولة أم عنف المجتمع. (أبجديات مكررة)
بدأت كتابة هذا المقال صباح الثلاثاء في سيناء وأنا أسجل ملاحظات ورؤى أبناء هذا الجزء العزيز من الوطن على ما يجري في الوادي..أجلس في الوديان مع مشايخ وشباب ونحن نحتسي الشاي بالحَبَق بعد الافطار.. يروون لي تاريخ الاحتلال الاسرائيلي..وحبهم للوطن ..وينظرون بعين البصيرة للخرائط ويؤكدون لي أنه لا مناص من تفاوض القوى السياسية (قال لي أحدهم لو كانت المشكلات عندنا لجلسنا وقمنا بحلها ) ويتحدثون معي عن إشكاليات تعامل الدولة مع سيناء كملف أمني فقط .. وأقيس ما عندهم من حكمة السنين مع ما عندي من رؤية للواقع تجمع بين المعرفة النظرية في مجال الاجتماع والسياسة -غايتها الحفاظ على الوطن وأهله وناسه وجيشه وكرامة مواطنيه وناخبيه ..وحرمة دماء كل إنسان فيه.
وها أنا أكتب في طريقي للعودة للعاصمة ..المركز..القاهرة.
الساعات القادمة بالغة الخطورة ..وأنا أعرف الغضب لدى كل من حمل جثة ابنه أو زميله أو صديقه..ورأيت الدم في الشوارع طول الوقت منذ ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ على الأسفلت وفي المستشفيات حتى صار كابوساً في الصحو قبل النوم..وغايتي أن يصل كلامي لمن يحشد للدم بين الناس بعد أن فقد الثقة في إمكانية القصاص والعدل (تحت شعار دم.. بدم ..وسنثأر) ، ومن ما زال الدم في بعض الجهات لم يجف بعد . أوجه كلامي للجميع..ولمن يراهن على استباحة دم المعارضة من رموز النخب التي كانت ترفع شعارات الديمقراطية..دون تمييز بيم مُحرض ومجرم ومواطن مسالم لا ينتمي لأيهما..وأوجهه لعقل من يهدد ويتوعد من نزلوا يدافعون عن إرادتهم من خلال الصندوق التي تم إهدارها ..وقبلهم جميعاً من يملك قوة الآلة العسكرية التي كان تأسيس الدولة المصرية الحديثة قائماً على أنها تحمي الناس دون تمييز وتحرس مدنية وعمران المجتمع- ولا تؤسس صراعاً مجتمعياً بل تحقن الدماء الزكية.. تحت مظلة قانون يتسع لمتطلبات النظام والأمن..وقضاء لا يدخل في خصومة سياسية -واحترام للشرعية الانتخابية والدستورية- وبعد ذلك فلتقم القوات المسلحة بتعريف العنف والإرهاب بوضوح وتتحمل مسئولية أفعالها أمام السلطات الثلاث عن أداءها..فهي ليست فوق المحاسبة..أكرر : ليست فوق المحاسبة.
إن مطلب الأمن الشامل لن يتحقق إلا بالعودة لقواعد احترام إرادة الناخبين وسلمية المجتمع وقيام السلطة بدورها في تأمين كل المواطنين دون تمييز واحترام القانون وتفعيل مسار الاصلاح الأمني بشفافية ، والعودة قبل فوات الأوان -ليس لحكم مرسي ولا حكم الإخوان- بل لمعيار إرادة الناخبين كما يعبرون عنها في الصناديق وعبر الانتخابات..وليس بالترويج لحشد الحشود بدعوة من وزير الدفاع ..أو القبول بديمقراطية الكاميرات التي تدور بها الطائرات الحربية والمروحيات ..لتعلن الفضائيات –إن أرادت-أن الشعب كله في الشارع..بدون حصر ولا عد..ولا مراجعة..ولا محاسبة.
إن القوى السياسية مدعوة للجلوس دون شروط مسبقة للاتفاق على خارطة طريق لا تقفز فوق إرادة الملايين وتعيد بناء التيار العام وتوقف الاقتتال الأهلي..وترسم للجيش حدود والقواعد التي سيتحرك في إطارها..خارطة طريق يحترم فيها الإعلام إنسانية البشر وأمانة النقل وتقديم المصالح العامة..ويضع فيها هذا المشهد أوزاره..وتعترف القوى المختلفة بأخطاءها (لا أحد هنا يعترف باي أخطاء) وتحدد أولويات المرحلة القادمة مع إعطاء أولوية لملف مياه النيل وإنقاذ الاقتصاد.
وإذا كان هناك لجنة للحقيقة والعدالة ثم المصالحة الوطنية نحتاجها الآن فإن على النخب أن تفسح المجال لصوت أهالينا في المحافظات..فاحتكار نخبة القاهرة والطبقات الوسطى والعليا الحديث باسم مصر أهلكنا ..أو يوشك.
ستخرج مصر من هذه الحقبة..نأمل فقط أن يكون ذلك بأقل خسائر..فقد سمحت لي ظروفي بدراسة التجربة الألمانية في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين بشكل تفصيلي، والاطلاع على تجربة جنوب افريقيا بزيارتين لهذا البلد بعد سقوط نظام الفصل العنصري في التسعينات ..وقرأت الكثير من أدبيات الحرب اللبنانية.....ونعم ..كان هناك دوماً في التاريخ قطاع من الشعوب يقبل كما رأينا نمو فاشية عسكرية أو فاشية دينية أو حتى سياسات فصل عنصري ..حدث هذا وتكرر في تاريخ الإنسانية.. ولم يشعر هؤلاء الذين قبلوا ذلك بالعار إلا بعدها بسنوات طويلة.
نعم..حدث بالفعل. نرجو أن يتعلم الناس من التاريخ ..ومن سنة الله في الذين خَلَوا من قبل.
كان ضمن آخر ما كتبته في جريدة الدستور ٢٠١٠ قبل ثورة ٢٥ يناير سلسلة مقالات تحت عنوان "عودة الجمهورية" تحدثت فيها عن رفض التوريث والاستبداد والقبضة البوليسية التي لا تحترم كرامة وحقوق المواطن ليس فقط لأنها ضد الديمقراطية بل لأنها تهدم قيم الجمهورية ، ولم تكن غايتنا من ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ فقط تأسيس ديمقراطية كنا نطالب بها لسنوات طويلة في الشارع مروراً بالدفاع عن القضاة ٢٠٠٦..بل حراسة وحماية "الجمهورية" .. بعد دعوة الفريق السيسي على الجميع أن يعرف حساسية وخطورة ما نحن بصدده ..وخيارات الناس في النهاية أماناتهم في الدنيا والآخرة -- وأخشى أن مخاطبة الفريق السيسي مباشرة للشعب بالنزول لتفويضه في مكافحة العنف والإرهاب ينقل مصر اليوم من طريق الجمهورية إلى مسار "الجماهيرية"..وعلى المصريين أن يفكروا جيداً في عواقب ذلك على كرامتهم وحريتهم ..وأمنهم.
والله أعلم..
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين
رب اجعل هذا البلد آمناً
..
هبة رءوف عزت
مواطنة مصرية