أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله عز وجل وإخلاص العبادة له ، وأن نكون من عمّار هذه المساجد بالصلاة والتلاوة ، والجلوس في حلق ذكرها ، وطلب العلم بين جنباتها .. قال المصطفى صلى الله عليه وسلم
(
إن للمساجد أوتاداً . هم أوتادها , لهم جلساء من الملائكة , فإن غابوا سألوا عنهم ،وإن كانوا مرضى عادوهم , وإن كانوا في حاجة أعانوهم)) قال الألباني : حسن صحيح ،
وفي رواية ((
ما من رجل كان توطن المساجد ,فشغله أمر أو علة ثم عاد إلى ما كان إلا يتبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم ))صححه الألباني.
وهذا مثل ضرب لنا للدلالة على تلقي الله هذا العبد المؤمن ببره وكرمه وتقريبه إياه مع فرحه بعوده ومقدمه .
إن المساجد
قلعة للإيمان
وحصن للفضيلة ..
ومنار للهداية . فليس ديراً للرهبنة ولا زاوية للمتعطلين ، ولا تكيّة للدراويش .
إنه وجد يوم أن أسس ليكون مهداً للانطلاقة الكبرى التي شهدها التاريخ , فلم يعرف في ديوان إي حضارة ولا سجل أي ثقافة
معْلم أثر في مسار الإنسانية واستنقذها من وهدتها كمسجد رسول الله صلى الله عليه مسلم فكان للصحابة رضوان الله عليهم مقراً لاجتماعهم , ومركزاً لمؤتمراتهم , ومحلاً لتشاورهم وتناصحهم ,
فيه يتآلفون ويتعارفون وعلى الخير يتعاونون , إنه المعهد والمدرسة والجامعة التي تخرّج منها العلماء والدعاة والقادة الذين هم على أيديهم وبفضل من الله أشرق على الأرض نور هذا الدين مشارقاً ومغارباً ,
ففيه تعقد الألوية , ومنه تسير الجيوش , زواياه حلقات علم وذكر وفي رحابه كان التقاضي والقضاء , وفيه كانت تجرى الملاعنة بين الرجال والنساء , كان الجرحى فيه يمرضون ، وبسواريه فيه الأسرى يربطون فإذا بهم على الإسلام يقبلون لما رأوا من شأن المؤمنين فيه فأقدامهم متراصة وأكتافهم متزاحمة وجباههم جميعاً على الأرض ساجدة وخاضعة . فيه تحل مشاكلهم وتقضى بتآزرهم حوائجهم ..
فبالحضور فيه يتلمسون غائبهم ويودعون مسافرهم , ويعودون مرضاهم .
ما دهاهم من أمر ولا نزل بساحتهم من خطب إلا نادوا فيه ((
الصلاة جامعة )) يستوي فيه الأمير والفقير والكبير والصغير ..
لذا قال حبيبنا عليه من الله صلاة وتسليم
(
المسجد بيت كل تقي , تكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة , والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة ))قال الهيثمي في مجمع الزوائد:رجال البزار كلهم رجال الصحيح.
وفي هذا كناية عن كون العبد دائم التردد عليه محباً للجلوس فيه معلّق القلب به .. فإذا بالمسجد بعد ذلك قرة عينه وشفاء صدره وأنس فؤاده .
(رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) . إنها بيوت الله من دخلها أمن , ومن أضاع الطريق إليها خاب وخسر .
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) .
إن المسجد معلم أشم يوم أن أُوصدت أبوابه وجففت منابعه واقتصر فيه على أداء الفرائض فُتحت للجهل والأمية من وراء ذلك أبواب وبدأ الرباط الوثيق بين أفراد المجتمع المسلم من حوله يتفكك ويتقطع إلى أوصال وأشلاء لا يعرف بعضها بعضاً , وتلك والله خسارة لا يعوضها ناد من النوادي ولا منتدى من المنتديات ولا مؤسسة أياً كانت من المؤسسات أو الإدارات فلا الجامعات ولا المحاكم ولا صالات المؤتمرات وقاعات المحاضرات وميادين الاحتفالات تستطيع بمفردها أو بمجموعها أن تسد ذلك المسد أو تغطي جوانب ذلك الدور الروحي الإيماني التربوي العلمي الأخلاقي للمسجد , وهذا لا يعني التقليل من شأن تلك المرافق الحيوية أو الاستهانة بمعطياتها إذا ما سخرت ووظفت فيما فيه طاعة للرحمن وعود على الأمة بالنفع والعرفان , ولكن ما شيء كما شيء وشتان بين الثرى والثريا , إنها وبلا شك مظاهر حضارية ومحاضن اجتماعية
ولكنها لن تؤدي أكلها وتثمر أشجارها إذا ما اعترفت بأستاذية المسجد عليها وريادته وسيادته على جوانبها إنه ولا بد ينبغي أن تكون أهدافها وغاياتها امتداداً لرسالة المسجد ومرسّخة لدعائمه ,
ولكن الغريب في الأمر أن أصبح في زماننا الطريق إلى المسجد أو الجامع في بعض البلدان محفوفاً بالمكاره ، ومحاطاً بالأعين ، ومملؤاً بالأشواك وإذا بعلامات الاستفهام وأصابع الاتهام تمتد إلى تلك الوجوه المتوضئة والأجساد الطاهرة , مع أن تلك الأقدام السائرة إلى بيوت الله في الظلم لصلاتي الفجر والعشاء المبشرة بالنور التام يوم القيامة لو كان خطوها إلى مقاهي سمر آثمة أو دور سهر محرمة لما نالها مما نالها شيء .
فإذا ببيوت الله تحبس أنفاسها وتجفف منابعها . (
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .أخي .. المعلق قلبه بالمساجد . إن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله يوم أن أخذ الله بيده ليعود عظيم بالأمة إلى سالف عزها ويستعيد لها بإذن الله كرامتها بدأ بها أول ما بدأ بالعودة إلى المساجد فأمر العلماء بعمرتها بدروس العقيدة والفقه والسيرة واللغة أعاد الأمة إلى بيوت الله لتسلّم في حياتها دورها القيادي وتتسنم ذروتها السامقة فإذا بالحياة تدّب في العروق من جديد وإذا بالنصر يقدم وبالعز يقبل وما هي إلا هنيهات في زمن التاريخ المتطاول حتى ترددت في جنبات مسرى الحبيب وأولى القبلتين أصداء الأذان وتكبيرات النداء . بعد أن كان خروجه لملاقاة عدوه من النصارى بعد صلاة الجمعة لسبع عشرة خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث و ثمانين وخمسمائة للهجرة وخرج معه المسلمون من المساجد إلى الجهاد وهم يكبرون ويتضرعون , فنصرهم الله . إنها الأوبة الصادقة والانطلاقة المباركة . فهل لذلك العود من عود ؟ وهل لذلك البدء من ابتداء ؟ أرجو ذلك
ولعظم شأن المسجد فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على عمارته وإقامته فها هو ذا يبني مسجد قباء أول ما نزل في حي عمرو بن عوف .(
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) . وعندما وصل المدينة صلى الله عليه وسلم أقام مسجده النبوي الشريف ، ثم تتابع بعد ذلك بناء المسجد في طيبة الطيبة كمسجد القبلتين والغمامة ومسجد بني زريق وفي حديث عائشة رضي الله عنهاأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب وكان يصلي لذوي الأعذار في بيوتهم في مكان منها ليتخذوه مسجداً كما في قصة عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وغيره ، وكان إذا نزل منزلاً في سفر أو حرب وبقي فيه مدة اتخذه مسجدا يصلي فيه وأصحابه رضي الله عنهم كما فعل في غزوة الخندق وخيبر , وفي غزوة تبوك .
وهذا يدل على أهمية المسجد وعدم استغناء المسلم عنه في أي مكان حلّ فيه , والحمد لله , فمن رحمته بنا أن جعل لنا الأرض مسجداً وطهورا لذا يلزمنا إقامتها في كل مكان تدعو الحاجة إلى وجودها فيه وخاصة أماكن التواجد البشري والعمل الجماعي وعلى الطرق للمسافرين وفي محطات الوقوف والانتظار والمطارات ودور التعليم وأماكن التنزه والاصطياف والحدائق وغيرها من مجمعات سكنية وقرى وبوادي .
يقول صلى الله عليه وسلم; "
من بنى مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة " ، وفي رواية
(
من بنى لله مسجدا قدر مفْحَص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة )) والقطاة : نوع من الطيور ، والمفحص مكان وضعها لبيضها ..
ولكن هنيئاً لمن رزق في ذلك الإخلاص لذا قال صلى الله عليه وسلم : "
من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله , بنى لله له مثله في الجنة " . فلا رياء ولا سمعة ولا تفاخر ومباهاة إذ كل هذه الأدواء من علامات الساعة حيث يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم:"
لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " ،وفي رواية :
نهى صلى الله عليه وسلم أن يتباهى الناس في المساجد ".
ونعوذ بالله أن نكون في شأن من شئوننا لنا حال كما ذلك العبد الذي أخبر عنه المصطفى بقوله صلى الله عليه وسلم : "
ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة " . وفي رواية:"
من سمع الناس بعمله , سمع الله به مسامع خلقه وصغّره وحقّره " .
أخي المقبل على رضوان ربه .. ونعبر من العمارة الحسية إلى العمارة المعنوية مما هو مشروع في بيوت الله ومحبب فيه وهو بيت القصيد فمن ذلك :
1-
أداء الفروض . قال صلى الله عليه وسلم : " من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ". الحديث .
2-
تلاوة القرآن والدعاء وطلب العلم فهذا مصطفانا صلى الله عليه وسلم يحثنا على ذلك بقوله
( من غدا إلى المسجد لا يريد إلاّ أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان له كأجر حاج تاماً حجته )).
3-
ومن ذلك الاعتكاف فيها وتوزيع الصدقات وقسمة الغنائم .
4-
ويلزم من ذلك تطييبها والقيام على نظافتها وصيانة مرافقها فتحفظ من الأذى ، ويُخرج منها القذى ؛لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم، وقد كان في عهد ه صلى الله عليه وسلم امرأة سوداء تقمّ المسجد فتوفيت ليلاً فلما
أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بها . وفي رواية أنه افتقدها فسأل عنها فقال لما علم بوفاتها
(
ألا آذنتموني ؟ ))، فخرج بأصحابه فوقف على قبرها فكبر عليها والناس خلفه ودعا لها ثم انصرف. وفي رواية :أنها كانت تلقط الخرق والعيدان من المسجد ،وهذا الأمر أيها الأخوة الكرام مسئولية الجميع فلا بد من المحافظة على بيوت الله نقية زكية كما يحافظ أحدنا على أعز متاعه في بيته , ولكن الحال غير المقال .
وكذا أخذ الزينة لها والتزين عند القدوم إليها .
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. 5-
كما يشرع ولله الحمد النوم فيه لحاجة ولمدة لا تطول فعن عبدلله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال
كنا ننام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونحن شباب ) رواه البخاري , ولكن الحكم في مثل هذا الشأن ينزّل على قدره ويدور مع علّته وليس على إطلاقه .
6-
كما يشرع الأكل والشرب فيه لحاجة كرمضان وقت الإفطار مع المحافظة على نظافته وفي مكان بعيد عن الصفوف إن أمكن ، ولمن له حاجة كمسكين وعابر سبيل ...الخ ولقد كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم يعلّقون القنو -عنقود النخل - في المسجد ليأكل منه الجائع والغلام وغيرهما.
7-
ومما يشرع إلقاء المحاضرات والشعر الإسلامي الهادف كما كان يفعل حسان رضي الله عنه بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من الأمور المشروعة المبثوثة في كتب أهل العلم .