والبحر متنفس وحيد له يقصده في كل لحظة يحس فيها بآلام هذه الدنيا و أحزانها
واليوم ... اليوم بالذات ... ضاقت انفاسه و كاد يختنق ... ضاق صدره و لم يجد مفرا من الاتجاه مباشرة الى صديقه البحر
فاستقل سيارته و أخذ يطوي الأرض طيا حتى وصل الى غايته
و تأمل أمواج البحر وكأنها قد غضبت لغضبه فتسارعت أمامه واندفعت متتابعة متلاحقة ... فاذا وصلت الى الشاطىء تفرقت مياهها و توزعت وانتشرت على الرمال
وبين هدير الأمواج و أصوات الرياح تزاحمت أفكاره وتدافعت كتدافع الأمواج المتلاحقة أمامه
رآها واقفة أمامه جميلة جذابة
كان قد أحبها الى درجة الجنون
سيطرت عليه حتى أنه لم يعد يرى غيرها في هذه الدنيا
كان يراها في مقر عمله ... فكل امرأة تمر امامه يرى فيها حبيبته الهام
يراها في مكتبه ... بين أوراقه ...
يراها في قلمه الذي لم يعد يكتب غير اسمها
أليس من الجنون ان يمسك كل قلم يراه في أي مكتب فيكتب به اسمها على أي وثيقة يجدها ؟
كان أحيانا يكتب اسمها فوق ملف أو فوق طاولة أو حتى على الجدار
وكان من يراه على هذه الصفة ضائعا بين الغضب احيانا وبين الضحك أحيانا أخرى محاولين أن يقنعوا أنفسهم أن هذا التصرف قد يكون عاديا من شخص قد أدركه جنون الحب
عاد الى سيارته فأخذ منها علبة السجائر ثم أخذ يتمشى على البحر ... و عادت اليه أفكاره من جديد
أي امرأة هذه التي سلبت عقله ؟
مالذي يميزها عن بقية النساء حتى يتعلق بها بهذا الشكل ؟
أي قوة جبارة سيطرت على كيانه ورفضت قبول الحقيقة المرة ؟
لماذا لم يخضع لنداء ضميره ؟
فهو كلما فكر فيها تراءت له صورة خطيبها ، فكيف يتعلق بها وهي ملك غيره ؟
جاشت هذه الأفكار برأسه وتوقف قليلا عند الشاطىء و هو يتأمل أمواج البحر
اشتدت به الحيرة وعذاب الضمير وعاد الى سيارته
فتح جهاز الراديو ثم أقفله ... ثم أعاد فتحه ، ثم أقفله
و رأى كأسا به بقية من القهوة فأخذه و خرج من السيارة و اتكأ على بابها
ترشف قليلا من القهوة ، وسرعان ما توترت أعصابه
و رمى بالكأس بقوة فتكسرت و تلاشى ما بها
ضرب مقدمة رأسه بكلتا يديه و استدار الى سيارته واتكأ عليها وهو مطأطىء رأسه
وضاع من جديد بين حبه لالهام و بين عذاب الضمير
و أدرك حقيقة مرة ... أدرك أن قلبه لا يتفق مع ضميره...فضرب سقف سيارته مرة ثانية بكلتا يديه... وأخذ علبة السجائر و تناول منها سيجارة أشعلها ثم ألقى بها على الأرض وهو غاضب
ثم أخذ سيجارة ثانية و أشعلها و أخذ منها نفسا عميقا و استسلم لخياله
رأى حبيبته ثانية وهو يرنو بعينيه الى الفضاء البعيد ... بقي يتأمل خيالها ... رآها ملاكا طائرا في السماء ...في أفق بعيد ... ر آها مبتسمة ... سعيدة ... تتنقل بين أرجاء الفضاء ... تعلو مرة وتنزل أخرى ... رآها ترقص فرحة مبتهجة
و رأى نفسه يتأملها من وراء البحر وبين أمواجه الغاضبة ... رأى نفسه حزينا قد ضاقت به الدنيا بأسرها واسودت أمامه
كانت تسيطر عليه فكرةالانتحار منذ آخر مكالمة هاتفية بينه وبين حبيبته
كانت يومها في غاية من القسوة و على غير عادتها ...كانت شخصا آخر غير الذي عرفها ... فأين كلماتها العذبة و أين صوتها الرقيق ؟
قال لها
لماذا لا تريدين أن تكلميني ؟ ماذا فعلت لك ؟
أجابته في جفاء
لم تفعل لي شيئا
سألها
اذن ... لماذا ؟
أجابته
هكذا بدا لي ؟
قال لها في حيرة وارتباك
هكذا بدا لك ؟ ببساطة ... لم تعودي تريدين أن تكلميني
أجابت
أجل ... لم أعد أريد أن أكلمك
لم يصدق ما يسمعه ... وسألها في دهشة و مرارة
هل أنت متأكدة من نفسك ؟
كان واقفا ... واجما ... كانت نظراته تائهة في الفضاء البعيد وهو يتذكر محتوى هذه المكالمة بيته وبين حبيبته
وخرق سمعه من جديد قولها
متأكدة من نفسي
وتكررت هذه الكلمات مرات ومرات ... وتداخلت في أذنيه بصوت عال ... ثم بصوت أعلى وأعلى وأعلى
حتى كاد يدركه الصمم
وضع كفيه على أذنيه وقطب حاجبيه ... و أطلق صيحة عالية
صرخ بقوة : آه ... آه ... آه
ثم فقد سيطرته على نفسه
وعاد الى سيارته
ألقى بنفسه على الكرسي أمام المقود و جعل يبكي كالمرأة الثكلى
وبين لحضات الصمت و الانهيار ، لمح حبيبته تمضي الى بعيد تنظر اليه مبتسمة وهي تعانق خطيبها
و رأى حبه اليها ينتحر خلفها تاركا اياه جثة هامدة فقدت كل ما فيها من أحاسيس و مشاعر