جبل لبنان شاعر منتدى كــــــــــل العــــــــــــرب
عدد الرسائل : 512 العمر : 59 العمل/الترفيه : مراسل حربى _ صحفى تاريخ التسجيل : 21/12/2008
| موضوع: أمرأه من سلاله الشياطين .. الجزء السابع عشر الجمعة 23 يوليو 2010, 11:05 am | |
|
امرأة من سلالة الشياطيــن القسم السابع عشــر
ما أن دخل الجميع حتى صار المنزل حلبة حقيقية لرقص صاحبات الهدية، لكن أيضا للعديد من أبناء وبنات الجيران من الشباب في بهجة نادرة. أطلق العزف والغناء الرغبات من معاقلها فعبرت الأجساد عن مكنوناتها خارج كل القيود، فصار الكل يستزيد؛ كلما همَّ أعضاء الفرقة الموسيقية بالانصراف استزادهم الحضور وثنوهم عن ذلك بمزيد من نتقيط أجساد الراقصات؛ يقوم أحد الحضور، فيخرج ورقة نقدية، يعرضها على أبصار الجميع، ثم يدسها بين نهدي إحدى الراقصات، يتلوه آخر أو أخرى، وهكذا إلى أن تتمتلئ صدور الراقصات باقطع النقدية فتسلمنها لرئيس الفرقة الذي يزداد فرحة واستجابة للطلبات والرغبات. وعلى قدر المبلغ يكون ليس طول المعزوفة الجديدة فحسب، بل وكذلك نوعها. وبذلك استمتع الحاضرون وأمتعوا بعضهم بعا بضروب من الغناء المتباينة التي مضت من الأغاني الشعبية البدوية الصاخبة التي تقتضي هز العجائز والأرداف وإدخالها في حركات ارتعاشية، مروروا بمقاطع شرقية اقتضت من مجموعة من الراقصات الكشف عن الجزء الأعظم من أجسادهن تماما كما في أشرطة الرقص الشرقي التركي والمصري واللبناني، وانتهاء بمعزوفات غربية تباينت بين الإيقاعات الصاخبة للروكن رول وألوان أخرى شتى لتنتهي بعزف الصلو الذي حول الساحة إلى أزواج من العشاق حيث كل ذكر يغازل أنثى فتستلسم له مثل غصن مياد يتهادي يمينا وشمالا، بل إن البعض انقض على هذه الفرصة فعانق نهودا ولمس شعورا ووضع شأنه خلسة على خط التماس مع شأن أكثر من واحدة من البنات على مرأى ومسمع من الجميع.
خلال ذلك رنَّ الهاتف وهاهي المرأة المكتنزة تستفسر عن صحة والدتي، ذهلتْ لضوضاء العزف والرقص، أجبتها بعبارت تلغرافية: - كل شيء على ما يرام، والدتي شُفيتْ تماما، وهم يُعيدون الآن حفل عقيقتها، سيطلقون عليها اسما جديدا لأنها عادت من الموت، يعتبرونها مولودة جديدة.. - متى ستعود إلى الرباط؟ - غدا مساء. - وإذن موعدنا غدا! حبيبي، باي باي ! ثم أمطرتني بسيل من القبل العميقة اللذيذة عبر الخط.
لم أجد في الرقص أي مفاجأة، بل رسَّخ المشهدُ قناعتي بالنظرية التي كونتها عن النساء بحكم الخبرة والتجربة: كلهن يعشقن الكذبَ والثناء على جمالهن وتصرفاتهن، ويعبدن الغناء والرقص؛ هو لهن مثل السجائر لمدمن التدخين؛ إن يتوتر ويقلق يلتهم كميات من التبغ لمقاومة التوتر والقلق، وإن ينتش ويفرح يلتهم كميات مماثلة تعبيرا عن الانتشاء والفرح. وهن برقصهن إنما يسعين للتفريج عن بؤسهن وشقائهن: تحرَّرن من التقاليد، ولكن المجتمع والحكومة تظافرا على إغراقهن في البؤس؛
يقول لهن المجتمع : «أنتن عاهرات أو منحرفات!» لمجرد أنهن كشفن عن بهاء أجسادهن وسقين أزهارن تجنيبا لها من الذبول، فيسعين، عبر التدخين والشراب، إلى احتمال ما لا يُحتمل، فيضررن إلى الاختفاء في أمكنة آمنة للممارسة «ذعارتهن» و«انحرافهن» بعيدا عن عيون المجتمع وحراسه. نصبتُ علما في منزلي أن هو ذا مكان آمن لكنّ فحججنَ إليه من كل فج عميق. ها هو السر الأول لحضوتي عندهن.
والحق أن فكرة الزواج بواحدة منهن رودتني مرارا، ولكن ما أن أخطو بضع خطوات حتى تلوح علامة «ممنوع المرور»؛ فالشرطية، مثلا، امرأة رائعة الجمال، وديعة ورومانسية، كريمة تغرق جليسها بالعناق والقبل، وتعطي زهرتها عن صدق لا عن كذب أو انتهاز؛ أكثر من ذلك هي واحدة من صاحباتي القلائل اللائي لا يدخنَّ ولا يسكرن، ولكن «غير وارد إطلاقا أن تتزوجي رجلا أقل من طبيب»، يشهر في وجهها أبواها كلما فاحت منها رائحة الرغبة في تجديد سرير نومها. وفي انتظار هذا الغودو الذي قد يأتي أو لا يأتي ها هي تجد نفسها مرغمة على «سرقة اللذة من رجال عابرين، أنت أحَدهم»، ردَّدت على مسمعي مرارا.... هذا ما خمنتُ أنها كانت تقوله برقصها الحزين، مثل ما قالته سيدة صالون الحلاقة يوم سقتها للمنزل؛ آية في الجمال، ابنة تسعة عشر عاما، ممشوقة القوام، تعلوني بحوالي 15 سنتمترا... استكثرتُ أن أنام مع هذا الجسد الملائكي الذي لا أرى مثله إلا في مجلات النساء وكبريات القنوات التلفزية العالمية والمنحوتات الإغريقية والرومانية وجداريات الكنائس. والله لم أصدق أنني الجالس أمامها، طفقتُ أسألُ نفسي: - أحقا أنني سأقطف هذه الزهرة بعد قليل؟ أأنا الذي سيقطفها أم أحد غيري؟ !
ولكن بعد أن أصخت السمع لمأساتها وأثنيتُ عليها وراقصتُها تهادت مستجيبة لدعوتي مثل غصن مياد، بعد ذلك لم تكتفي بإشراع محرابها بسخاء فحسب، بل وعرضت عليَّ أن نتزوج: - ولكنني أكبر منك بربع قرن يا بُنيَّتي! - لا يهمني السن إطلاقا، والله إني لمستعدة للزواج من رجل عمره 50 عاما فما فوق!
ذكرني قسَمُها بإعلانات الزواج في مواقع عديدة بالأنترنت؛ حسناوات جميلات صغيرات، قلما تجاوز سنهن 25 عاما، يعرضن أنفسهن للزواج بعبارات تكاد تكون مُقَوْلَبة: «أنا فتاة جميلة ورومانسية، رهيفة الإحساس، أريد الارتباط برجل أوروبي، يتراوح عمره بين 40 و100 عاما، بعلاقة تؤدي إلى الزواج، أنا مستعدة لإعطائه كل السعادة التي يبحث عنها...»، إلى آخر الأغنية التي لا يقتضي فكّ شفرتها تكوينا في السيميائيات ولا الهريمنوطيقا ولا أي علم من علوم تأويل النصوص: «أنا عمري أقل من 25 عاما، أقبل الزواج برجل ليس في سن أبي فحسب، بل وحتى في سن جدي؛ أنا مذنبة، وذنبي الوحيد أن أحدهم أوهمني بالحب؛ أسمعني كلاما حلوا وأسكنني نعيما من الأحلام، فصدقته ونذرتُ له قلبي وجسدي، ولكنني ما أسلمته زهرتي حتى أدماها وأطلق ساقيه للريح، وتركني جريحة...».
قلت لسيدة صالون الحلاقة: - ولكن شأني سينخفض في غضون بضع سنوات، بينما حديقتك لازالت فتية وزهرتك محتاجة لثلاثين سنة، على الأقل، من السقي والعناية! - إن تتزوجني والله لن أفتح حديقتي لرجل غيرك! لئن أفعلُ فليعاقبني الله عقاب من تزاني مع أبيها. ثمَّ ضع في عقد زواجنا شرطا: ألا أغادر البيت إطلاقا... - إيوا؟ ! والدخان والخمر؟! - آه هذان لا! أتنازل عن كل شيء إلا هذين! ندخن معا ونشرب معا..
عندما أنجزتُ الحسابات وجدتُ أن ثلثي راتبي الشهري سيطيران مع التبغ والخمر. الله أكبر! ولنجعل من الخبز والشاي وجبة أزلية! تحسرتُ، ازدادت حسرتي عندما فطنتُ إلى أن ما وراء هذا الممنوع سوى عاهرة اسمها الحكومة. قلت والله لو كانت هذه الذاعرة امرأة لقدمتُ صومعتي فداء للأمة؛ لفجرتُها في محرابها إلى أن تستسلم وتؤدي فروض الطاعة والولاء للمواطنين، فترفع يدها عن ضريبة القيمة المضافة عن الشراب والتبغ إلى أن تباعَ علبة الجعة بربع دولار ونظيرتها من السجائر بنصف أو أقل، فيتزوج الجميع إلى أن لا يبقى في الأمة عازب ولا عانس، بل وإلى أن لا يشرب أحد من الجنسين خمرا ولا يدخن تبغا لأن الحياة ستصير قابلة للاحتمال.
آنذاك اعتذرتُ لها بكل صدق، فتفهمتني إلى أن أغذقت علي نعمها بكرم حاتمي؛ صارتْ تصل يوميا بيتي حوالي الساعة السادسة والنصف مساء، تطبخ العشاء وتأكل وتشرب وتدخن، ثم تدعوني لتدشين محرابها، فنتأرجح مقادر ساعة أو أكثر، حتى إذا حلت العاشرة ليلا حملت زهرتها وانصرفت لتضعها في المزاد العلني بكبريات فنادق المدينة وعلبها الليلية...
وعندما كانت تتعب وتريد قسطا من الراحة كانت تأتي إلى البيت محملة بخضر وفواكه ولحوم وقنينات خمر وتبغ، تقول لي: - لن ير وجهي الليلة أي قواد أو لوطي! أريد أن أرتاح؛ والله لن يسجد في محرابي ولد امرأة الليلة ولو أعطاني 5000 دولار!
أفطن للتو أنني لم أكن على الدوام سوى «قواد» أو «لوطي» في أعين البنات اللواتي بددتُ عليهن ثروة أبي تبديدا في الحانات والمراقص والملاهي وكبريات الفنادق...
كانت تقسمُ ثم توفي القسم حقه، لا يثنيها عن قرارها أن تغوصَ في السكر مقدار 2000 ميل أو أكثر؛ تطبخ عشاء لذيذا، وتتفنن في تزيين المائدة، وتسكر وتدخن وتحكي لي مغامراتها وشجونها، ثم تنام بين أحضاني مثل طفلة صغيرة، بعد أن تدخلني جنتها.
وكنتُ أزعم تأليف كتاب عن احتراقها، بدل كتابي الحالي، لولا أن صبرها واستماتتها في الكفاح لتضميد زهرتها الجريحة تكللا بالنجاح؛ فقد هام مقاول ياباني كبير في حبها هياما شديدا، قدمته لي وقدمتني له باعتباري أعز أصدقائها. كان واضحا جدا؛ قال إنه لا يصدق هذه الهبة التي نزلت عليه من السماء؛ سيذر عليه هذا الزواج ثروات طائلة، لم يحلم بها من قبل، بمجرد ما ينشر صورة زوجته رائعة الجمال في لوحات الإعلان بمصنعه وأنفاق ميترو طوكيو التي يرتادها يوميا نمل من البشر، ناهيك إذا وضعها في علب منتوجاته أو ورق تلفيف السِّلع... تسائلتُ: هل تزوج المرأة أم الصورة؟ تركت حكم هذا الزواج لما ستأتي به الأيام من أخبار!
هذا ما كنتُ شاردا فيه بعد استعادة المنزل صفاءَه عندما اقتلعتني ضوضاء بباب المنزل، خرجتُ وها هو موكب أضخم من الأول؛ وصل خبر «زواجي» إلى المدرسة فأعلن اليومُ يومَ عطلة واكتتب المعلمون والمعلمات والمدير واشتروا هدية وجاؤوا يباركون «زواجي» الجديد، ليتكرر إخراج وعرض الشريط السينمائي السابق نفسه عدا اختلافات بسيطة؛ تهيَّب المعلمون والمعلمات الرقص فيما أبان المدير عن موهبة عظمى فيه؛ كان يحرك كيفيه ويلتوي يمينا وشمالا وينط في الهواء كأنه يعرض شرحا تطبيقيا للرقص على نحو ما يسوقه الشيخ ابن قيم الجوزية في كتابه «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان»... ما هذه الفرحة العظمى؟ أهو الرقص الصادق أم مجرد كذب وتمثيل؟ والله من ينظر هذا الرقص لن يجد له إلا أحد ثلاثة تفاسير: - إما أنني كنتُ ملق بشباك صيدي على زوجة المدير وبناته وها هو يتنفس الصعداء لأنني لن أصير أعزب بعد اليوم؛ - أو هو منتش فرحا لإخلائي ساحة المرأة المكتنزة حيث صار بإمكانه، من الآن فصاعدا، خوض ملحمة جديدة معها بكل اطمئنان؛ - أو أنه يتشفى برقصه هذا لوقوعي في فخ الزواج مجدَّدا، أنا الذي كنتُ أردد عليه حرفيا قول نسرين أصغر صويحباتي: - إياك والزواج! إنه صداع للرأس وسجن رهيب !
ولم أكن أضيف أبدا ما كانت تشفع به التحذير السابق؛ كانت تهدد: - إن تتزوج والله لن تر وجهي ثانية! لن تفرحَ مني ولو بتحية في الطريق!
نسرين هذه التقيتُ بها في خزانة المعهد الثقافي الفرنسي؛ كانت تقلب كتبا في الفلسفة، فاستكثرتُ من هذه الصغيرة الشقراء متوسطة القامة وردية اللحم البحث في فهارس كتب عمالقة في الفكر الفلسفي، مثل كانط وسارتر وفتجنشتاين. عرضتُ خدمتي، استجابت بسهولة أدركتُ منها أنها هي الأخرى كانت متربصة بي، فما مرت دقائق إلا ونحن في أقرب مقهى، أظهرتُ لها دعوتي فاعتنقتها عن طيب خاطر؛ في اليوم الموالي هربت من الثانوية وقضينا أمسية ممتعة جميلة، وضعنا برنامجا مزودجا لما تبقى من السنة الدراسية: أمنحها دروس تقوية في الفلسفة وعلم الكلام واللغة العربية، وتنذر محرابها لشأني ، وكانت مؤهلة لذلك؛ هي أيضا من ضحايا التزحلق وقطاف الأزهار؛ كانت زهرتها جريحة لم يمض على قطافها سوى بضعة أسابيع؛ دوَّخ رأسها الصغير عامل مهاجرٌ بسيارته الفاخرة والوعود النعيمية إلى أن منحته زهرتها، لكنه بمجرد ما قطفها أطلق ساقيه للريح وصار في حُكم المفقودين، فكان مني أن أكملتُ القطافَ إلى أن صار المحراب جاهزا للصلاة فتفرغت فيه للعبادة. بالموازاة مع ذلك درَّستها مواد الفلسفة والأدب واللغة الفرنسية إلى أن صارت نابغة وحصلت على الباكالوريا بميزة حسنة جدا، ولكنها ما وطأت أعتاب الحرم الجامعي حتى اتعست رؤيتها فلاحت لها آفاق أخرى؛ شنت فتوحات مقدسة في شؤون كبار موظفي الطيران وفنادق الخمس نجوم ومديريات ووزرارت إلى أن وقعت على صيد ثمين: تزوجت بموظف سام في إحدى السفارات الأوروبي، وآخر أخبارها أنها رزقت منه طفلان. والله ما كلفتني ثروة ولا مبالغ كبرى؛ هدايا بسيطة من حين لآخر، كل ما كانت تطلبه مني هو أن أغذق عليها الحنان لا غير. وذاك ما كنتُ أفعل؛ فبمجرد ما تصعدني فوق أرجوحتها، أطيل النظر في وجهها وأقبل عينيها وأعبث بخصلات شعرها وأنا أرَتِّلُ: - أي حبيبتي ونور عيني! أي قطتي! أنا الآن في محراب معبوديتي! أنا الآن في محراب معبودتي! لأسقينَّ حديقة حبيبتي سقيا! - نعم، نعم، نعم، نعم
تقول بغنج منكسر حزين، وهي تمنحني ما هو أشد حميمية فيها إلا أن يُخيَّلُ إليَّ أنني بصدد العودة إلى رحم أمِّي الحنـون... -------- يُتبَــع جبل لبنان
الموضوع الأصلي : أمرأه من سلاله الشياطين .. الجزء السابع عشر المصدر : منتدى كل العرب
|
|