بل
إنّ القابضات على الجمر لم يكتفين بالصبر عن الشهوات وتحمل البليات، وإنما
كان لهنّ في نصر الدين ومقاومة الباطل بطولات وأعاجيب.. صفية بنت عبد
المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم، عجوز قد جاوز عمرها الستين سنة..
لما اجتمع الكفار من قريش وغيرها، وتآمروا على غزو المدينة.. حفر المسلمون
خندقا في جهة من جهات المدينة، وكانت الجبال تحيط ببقية الجهات. وكان عدد
المسلمين قليلا، فاستنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم كلهم ليرابطوا عند
الخندق حتى لا يتسلل أحد من الكفار. أما النساء والصبيان، فقد جمعهم النبي
صلى الله عليه وسلم في حصن منيع ولم يترك عندهم من يحرسهم لقلة المسلمين.
وبينما النبي صلى الله عليه وسلم منشغل مع أصحابه في القتال عند الخندق،
تسلل جمع من اليهود حتى وصلوا إلى الحصن. ثم لم يجرؤوا على الدخول خشية من
وجود أحد من الرجال المقاتلين.. اصطفّ اليهود خارج الحصن، ثم أرسلوا واحدا
منهم يستطلع لهم الأمر.. جعل هذا اليهودي يطوف بالحصن، حتى وجد فرجة فدخل
منها. ثم بدأ يبحث وينظر.. رأته صفية رضي الله عنها ففزعت! وقالت في
نفسها، هذا اليهودي يطوف بالحصن، وإني والله لا آمن أن يدل على عورتنا ما
وراءنا من يهود، وقد شُغل النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه.. وإن صرختُ
فزعت النساء والصبيان، وعلم اليهودي أنه لا رجال في الحصن.. فماذا فعلت
صفية؟ ماذا فعلت هذه المرأة التي قد جاوز عمرها الستين سنة؟؟ تناولت
سكينا، ثم ربطته في وسطها، وأخذت عمودا من خشب ونزلت من على الحصن..ثم
جاءت إلى هذا اليهودي، وتحينت منه التِفاتة ثم ضربته بالعمود على أم رأسه
حتى قتلته! فلما خمد، تناولت السكين وحزت رأسه فألقته من فوق جدار الحصن..
فوقع تحت أرجل أصحابه الذين ينتظرون الخبر! فلما رأوا رأس صاحبهم تصايحوا
وقالوا: "قد ترك محمد هنا جيشا كــاملا".. ثم ذهبوا .. فلله در صفية، تلك
العابدة التقية.. تأملي في جرأتها وبذلها لنفسها لخدمة هذا الدين! فكم
تبذلين أنت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ كم ترين في المجالس من
النامصات وفي الأسواق من المتبرجات وفي الأعراس من المتعريات فماذا فعلتِ
تجاههن ؟ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} ماذا يفعلون؟ {يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة:71).ومن تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استحقت اللعنة كما قال الله سبحانه: {لُعِنَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (المائدة:78) لماذا لعنهم الله؟؟ {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (المائدة:79).ولا
تخجلي من ذلك، فالدعوة إلى الله تحتاج إلى جرأة في أولها، ثم تفرحين
بآخرها.. إنّ الصالحات، القابضات على الجمر، إذا أتى إحداهن الأمر من
الشريعة، أطاعت وسلمت وأذعنت ولم تعترض أو تخالف أو تبحث عن مخارج.. تأملي
في قصة هذه الفتاة العفيفة العروس... قال أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه[11]:
(كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له جُليبيب، كان في وجهه
ذمامة، وكان فقيرا، يكثر الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم يوما:"يا جليبيب، ألا تتزوج يا جليبيب؟"فقال: "يارسول الله، ومن يزوجني يا رسول الله ؟"، فقال صلى الله عليه وسلم:"أنا أزوجك يا جليبيب"، فالتفت جليبيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"إذن تجدني كاسِدا يا رسول الله.."، فقال صلى الله عليه و سلم:"غير أنك عند الله لست بكاسد"، ثم
لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يتحين الفرص حتى يزوج جليبيبا.. فجاء في
يوم من الأيام، رجل من الأنصار، قد توفي زوج ابنته، فجاء إلى النبي صلى
الله عليه وسلم يعرضها عليه _ يعرض ابنته ليتزوجها النبي صلى الله عليه
وسلم _ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"نعم أتزوجها، ولكن لا أتزوجها أنا"، قال: "فلمن يارسول الله؟" قال:"أزوجها جليبيبا!"، فقال ذاك الرجل: "يارسول الله تزوجها لجليبيب؟ يا رسول الله، انتظر حتى أستأمر أمها.." ثم مضى إلى أمها وقال لها: "إنّ النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إليكِ ابنتك"، قالت: "نعم ونعمين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يرُدّ النبي صلى الله عليه وسلم؟"، فقال لها: "إنه ليس يريدها لنفسه"، قالت:"فلمن؟"، قال: "يريدها لجليبيب!" قالت:"لجليبيب؟؟؟ لا لعمر الله! لا أزوج جليبيبا وقد منعناها فلانا وفلانا".. فاغتمّ أبوها لذلك، ثم قام ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم. فصـاحت الفتاة من خدرها! تلك الفتاة المؤمنة، صاحت وقالت لأبويها: "من خطبني إليكما؟" قالا: "خطبك رسول الله صلى الله عليه وسلم". قالت: "أَفَترُدانِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟؟ ادفعاني إلى رسول الله، فإنه لن يضيعني!" قال أبوها: "نعم"، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"يارسول الله، شأنك بها"، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم جليبيبا، ثم زوجه إياها. ورفع النبي صلى الله عليه وسلم كفيه الشريفتين وقال:"اللـهم صب عليهما الخير صبا، ولا تجعل عيشهما كدا كدا"، ثم
لم يمضِ على زواجهما أيام، حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة،
وخرج معه جليبيب. فلما انتهى القتال اجتمع الناس، وبدأ يتفقد بعضهم بعضا،
فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"هل تفقدون من أحد؟" قالوا: "نعم يا رسول الله، نفقد فلانا وفلانا.." كل واحد منهم إنما فقد تاجرا من التجار أو عظيما من العظماء أو فقد ابن عمه أو أخاه.. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"نعم، ومن تفقدون؟" قالوا: "نفقد فلانا وفلانا.." قال:"ومن تفقدون؟".. قالوا: ونفقد فلانا وفلانا.. قال:"ومن تفقدون؟؟" قالوا:"هؤلاء اللذين فقدناهم يا رسول الله".. فقال صلى الله عليه وسلم:"ولكنني أفقد جليبيبا، فقوموا نلتمس خبره"، ثم
قاموا وبحثوا عنه في ساحة القتال وطلبوه مع القتلى فلم يجدوه.. ثم مشوا
فوجدوه في مكان قريب إلى جنب سبعة من المشركين قد قتلهم، ثم غلبته الجراح
ثم مات.. فوقف النبي صلى الله عليه وسلم على جسده المقطع ثم قال:"قتلتهم ثم قتلوك.. قتلتهم ثم قتلوك.. أنت مني وأنا منك.. أنت مني وأنا منك". ثم
تربع النبي صلى الله عليه وسلم جالسا بجانب هذا الجسد، ثم حمل رأس جليبيب
ووضعه على ساعديه صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يحفروا له قبرا. قال أنس: "فمكثنا والله نحفر القبر وجليبيب ما له فراش غير ساعد النبي صلى الله عليه وسلم." قال أنس: "فعدنا إلى المدينة، فما كادت تنتهي عدتها حتى تسابق إليها الرجال يخطبونها"(مسند احمد)[12].
{إِنَّمَا
كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(النور:51-52).والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما عند البخاري:"كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قالوا:"يا رسول الله ومن يأبى؟ من يأبى أن يدخل الجنة؟؟" فقال صلى الله عليه:"من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" (صحيح بخاري)[13].
فأين
تلك الفتيات الصالحات؟ اللاتي تقدم إحداهن محبة الله ورسوله على هواها..
فإذا سمعت أمر الله قدمته على أمر كل أحد، بل وقدمته حتى على ما تزينه لها
صديقاتها.. قالت عائشة رضي الله عنها كما عند أبي داوود:
"والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ولا إيمانا
بالتنزيل. لقد أنزل في سورة النور الأمر بحجاب المؤمنات، فقال الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } (النور:31) قالت
عائشة، فسمعها الرجال من الرسول صلى الله عليه وسلم، فانقلبوا إلى أهليهم
يتلون عليهن ما أنزل فيهن. فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها _وهو كساء
من قماش الذي تلبسه النساء- قامت إليه ثم لفته على رأسها واعتجرت به.
وقامت بعضهن (التي كانت فقيرة ولم يكن لديها كساء)، قمن إلى أزرهن ثم
شققنها واختمرن بها وغطين وجوههن، تصديقا وإيمانا بما أنزل على النبي صلى
الله عليه وسلم، فأصبحن وراء النبي صلى الله عليه وسلم معتجرات قد لففن
الحجاب على رؤوسهن ووجوههن كأنّ على رؤوسهن الغربان.الله أكبر! هذا حال تلك المرأة في ذلك الزمان، في تغطيتها لوجهها وسترها لزينتها. تتستر حتى لا يراها الرجال. هل
تدرين من هذه المرأة التي سارعت إلى التستر والحجاب؟ إنها عائشة أم
المؤمنين، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسماء بنت أبي بكر
وغيرهن من الصالحات التقيات.. هل تدرين عمن يستترن؟ إنهن يستترن عن أبي
بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة.. أزكى رجال الأمة وأعفهم
وأطهرهم.. ومع ذلك أُمرت تلك النساء بالتستر عن أولئك الرجال، مع صلاح
المجتمع في ذاك الزمان. بل قد نهى الله تعالى أولئك الأخيار أن يكلموا زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إلا من وراء حجاب. فقال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} لماذا؟ قال عز وجل {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (الأحزاب:53) الله
أكبر.. أطهر لقلب أبي بكر وعمر، وأطهر لقلب عائشة وخديجة.. فبالله عليكم!
كيف الحال مع رجالنا ونسائنا وقد فسد الزمان ؟ ماذا نقول لنساء جريئات
تحادث إحداهن البائع في السوق بكل طلاقة لسان وكأنه زوجها أو أخوها! بل قد
تضاحكه وتمازحه ليخفض لها في السعر.. مع لبسها للنقاب الواسع وإظهارها
لكفيها وقدميها وتكسرها في كلامها.. وقد تزيد على ذلك، فتخلو بالسائق في
السيارة! وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما.. وكل
هذه المعاصي تفعلها وهي تدرك أنها معاصٍ، لكنها مع ذلك تقدم عليها بنِعَم
أعطاها الله لها وكأنّ ربها عاجز عن عذابها! سبحان الله، لو شاء الله لسلب
منك هذه النعم التي تعصينه بها.. اذهبي إلى مستشفى النقاهة وانظري إلى
أحوال النساء اللاتي فقدن العافية.. اذهبي لتري فتيات في عمر الزهور، لا
يتحرك في الواحدة منهن إلا عيناها.. أما بقية جسدها فمشلول شللا كليا، لو
قطعت رجلاها ويداها بالسكاكين لما أحست بشيء من ذلك.. نسأل الله لهن
الشفاء والعافية والأجر العظيم. كل واحدة منهن لا تصل أمنيتها أن تتمشى
وتتعافى.. كلا، بل تتمنى لو تتحكم في إخراج البول والغائط.. بل لا تدري
أنه خرج منها بول أو غائط إلا إذا شمت الرائحة. يلبسن حفائظ على عوراتهن
كالأطفال، وتبقى الحفائظ على بعضهن ثلاثة أيام وأربعة.. قد كانت مثلك تأكل
وتشرب وتضحك وتلعب وتمشي في الأسواق، وفجأة ودون سابق تحذير، أصيبت بحادث
بالسيارة أو جلطة في الدماغ أو في القلب، والنتيجة صارت حية في صورة ميتة
عشر سنين وعشرين سنة وثلاثين..
{قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ
عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ
كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (سورة:الأنعام:46-47)،
ولا يعني هذا أنّ كل من أصابها مرض فإنّ ذلك يكون عقوبة أو معصية، ولكن لا
يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.. القابضات على الجمر، يتسابقن إلى
الأعمال الصالحات كبيرها وصغيرها، ولهنّ في كل ميدان سهم، ولا تعلمين ما
هو العمل الذي به تدخلين إلى الجنة. فلعل شريطا توزعينه في مدرسة أو نصيحة
عابرة تتكلمين بها، يكتب الله لك بها رضاه إلى يوم تلقينه.
ولقد أخبر
النبي صلى الله عليه وسلم:"أنّ
امرأة بغيا من بني إسرائيل تدعو الرجال إلى فعل الفاحشة بها وتأخذ مالا
وعوضا على ذلك، كانت تمشي في صحراء فرأت كلبا بجوار بئر يصعد عليه تارة
ويطوف به تارة في يوم حار، قد أدلع لسانه من العطش وكاد يموت من العطش.
فلما رأته هذه البغي التي طالما عصت ربها وأغوت غيرها ووقعت في الفواحش
والآثام وأكلت المال الحرام، نزعت خفها (حذاءها) ثم ربطته بخمارها، ثم
أنزلته في البئر ودلته في الماء حتى ملأته ماءا، ثم سقت هذا الكلب فغفر
الله لها(صحيح مسلم)[14].
الله
أكبر! غفر الله لها بماذا؟ هل كانت تقوم الليل و تصوم النهار؟ كلا.. هل
قتلت في سبيل الله ؟كلا، وإنما سقت كلبا شربة من ماء، فغفر الله لها بذلك.وروى مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنه جاءتها مسكينة تحمل ابنتين لها، فقالت: "يا أم المؤمنين، إني مسكينة، والله مادخل بطوننا طعام منذ ثلاثة أيام"،
فدخلت عائشة إلى البيت، ثم بحثت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام
تتصدق به، فلم تجد إلا ثلاث تمرات، فأعطت هذه الثلاث تمرات للمسكينة، فرحت
بها تلك المسكينة، ثم أعطت كل واحدة من الصغيرتين تمرة، ورفعت إلى فيها
تمرة لتأكلها، فكانت البنتان من فرط الجوع أسرع إلى تمرتيهما من الأم إلى
تمرتها، فأكلتا تمرتيهما ثم رفعتا أيديهما تريدان التمرة التي في يد الأم،
نظرت الأم إليهما ثم شقت التمرة الباقية بينهما.. قالت عائشة: "فأعجبني حنانها"، ثم ذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إنّ الله قد أوجب لها بها الجنـة أو أعتقها بها من النـار"(صحيح مسلم)[15]،
أعتقها بشق تمرة أعطتها لطفلتيها.. فالقابضات
على الجمر، يتسابقن إلى الطاعات وإن كانت يسيرة صغيرة. والأعظم من ذلك، هو
الحذر من المعاصي صغيرها وكبيرها، وعدم التساهل بها. فلقد قال الله تعالى
عن قوم تساهلوا بالمعاصي وتصاغروها، قال عز وجل {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور:15) وأخبر
النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين، أنه رأى امرأة تعذب في النار،
فما الذي أدخلها إلى النار؟ هل سجدت لصنم؟ هل قتلت نبيا؟ هل سرقت أموال
الناس؟ كلا.. دخلت امرأةٌ النارَ في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها إذ
حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت الهرة هزلا.. قال صلى
الله عليه وسلم:"فلقد رأيتها في النار والهرة تخدشها"(صحيح بخاري)[16].
وروى
البخاري أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، يا رسول الله،
إنّ فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتتصدق لكنها تؤذي جيرانها
بلسانها.." عندها طاعات كثيرة، لكنها تفعل هذه المعصية الصغيرة.. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "لا خير فيها، هي من أهل النار"، قالوا: "يارسول الله، وفلانة تصلي المكتوبة وتتصدق بأثوار -أي بأجزاء يسيرة من الطعام- لكنها لا تؤذي أحدا.قال النبي صلى الله عليه وسلم:"هي من أهل الجنة"(مستدرك الحاكم)[17].
أما
القابضات على الجمر في هذا الزمان، فتعلم كل واحدة منهن أنّ الحرب الموجهة
إليها حرب ضروس، يريدون منها استعبادها وهتك عرضها باسم الحرية والمساواة.
فما معنى الحرية التي يدعو إليها المفسدون؟ ولماذا لا يدعون إلى تحرير
العمال المظلومين والأيتام المنبوذين؟ لماذا يصرون على أنّ المرأة العفيفة
التي تعيش في ظل وليّها، ولو مد أحد العابثين إليها يده، لما عادت إليه
يده.. لماذا يصرون على أنّ هذه المرأة تحتاج إلى تحرير ؟ هل ارتداء المرأة
للعباءة والحجاب لتحمي نفسها من النظرات المسعورة يعد عبودية تحتاج أن
تتحرر منها المرأة؟ هل تخصيص أماكن معينة لعمل المرأة، بعيدة عن مخالطة
الرجال، هو عبودية وذل للمرأة ؟ هل تربية المرأة لأولادها ورأفتها ببناتها
وقرارها في بيتها هو عبودية تحتاج منها إلى تحرير؟ ثم لماذا نجد أنّ أكثر
من يتنابحون ويدعون إلى تحرير المرأة وتكشُّفِها لهم، ويزعمون أنّ حجابها
قيد لابد أن تتحرر منه.. لماذا نجد أنّ أكثر هؤلاء والله ليسوا من العلماء
أومن المصلحين، إنما أكثرهم من الزناة وشرّاب الخمور وأصحاب الشهوات
المسعورة.. فلماذا يدعوا هؤلاء إلى تحرير المرأة؟ لماذا يستميتون لإخراج
العفيفة من بيتها ؟ الجواب واضح.. اشتهوا أن يروها متعرية راقصة فزينوا
لها الرقص، فلما تعرت وتبذلت أرضوا شهواتهم منها ثم صاحوا بها وقالوا قد
حررناك.. اشتهوا أن يتمتعوا بها متى شاؤوا فزينوا لها مصاحبة الرجال
ومخلطتهم حتى حولوها إلى حمام متنقل، يستعملونه متى شاؤوا على فرشهم، في
حدائقهم، وباراتهم وملاهيهم.. فلما تهتكت وتنجست صاحوا بها وقالوا قد
حررنـاكِ..[center]خدعوها بقولهم حسناء ..
والغواني يغرّهن الثناء..
نظرة فابتسامة فسلام..
فكلام فموعد فلقاء..