سباق الخيل عند العرب

--------------------------------------------------------------------------------

سباق الخيل عند العرب
المقدمة:
كان سباق الخيل بحق من أحب ضروب الرياضة عند العرب إلى نفوسهم. فلقد شغفوا بسباق الخيل شغفاً شديداً، وعدوه من أهم السباقات الشيقة حيث أنها تجذب الناس على اختلاف شرائحهم الاجتماعية. فزاولوها بهمه عالية، وروح تواقـة لإظهار الفتوة والرجولة، والبطولة النادرة التي تغنى بها الشعراء في أشعارهم. وتحدث عنها الكتاب والأدباء في كل مكان، وتداولها الناس على شكل قصص مثيرة أو أخبار كانت تروى بين القبائل حتى غدت أحاديث الناس في أشعارهم وترحلهم ومجالسهم بحيث أن الجميع كانوا يودون سماعها بلهفة شديدة ورغبة صادقة.
ويعد سباق الخيل أصل الفروسية وقاعدتها، لأنه يعلم الكر، والفر، والظفر بالغاية." فالفروسية عند العرب أربعة أنواع احدها: ركوب الخيل والكر والفر بها. الثاني: الرمي بالقوس. الثالث: المطاعنة بالرماح. والرابع: المداورة بالسيوف. فمن أستكملها أستكمل الفروسية " (1).
لقد كانت الفروسية وبخاصة سباق الخيل والرهان عليها من ابرز المظاهر الاجتماعية التي سادت المجتمع العربي فكانت القبائل العربية تتسابق خيولها وتتفاخر بها وكثيرا ما نشبت حروب ومنازعات بينها بسبب رهان لسباق الخيل، وأشهر هذه الحروب هي (داحس والغبراء) . وجاء الإسلام فحرض على الاهتمام بالخيل، حيث أمر الله تعالى رسوله محمداً باتخاذها وارتباطها، فقال " … ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " كما أقسم الله سبحانه وتعالى بها في سورة العاديات، وذكرها الله تعالى في آيات أُخر في كتابه الكريم. أوصى رسول الله (r) بالخيل وتكريمها والحفاظ عليها، ونهى عن إذلالها وتعذيبها. ثبت أن رسول الله (r) قد أكد على إتقان الفروسية، فسبق الخيل وراهن عليها، وحضر سباقاتها، وشاركت خيله فيها وكرّم الفائزين بجوائز وهدايا.
وقد أهتم الخلفاء الأمويون وعمالهم بها اهتماماً كبيراً، وشغفوا بها شغفاً بالغاً، واعتنوا بها عناية فائقة، إذ نظموا حلبات السباق لإجراء مسابقات الخيل عليها، ومثل ما أحبوا المراهنة، أغدقوا العطاء للفائزين والتزموا بتعليمات الشريعة الإسلامية التي سنها الرسول محمد (r) التي تخص سباق الخيل والرهان عليها.
وكان سباق الخيل من أبرز ضروب الرياضة الترويحية في العصر العباسي. وكان من أحب ألوان التسلية عند الخلفاء والأمراء والولاة وكبار رجال الدولة، وعامة الشعب. وكانت حلبة السباق تُعَّدُ بمثابة الأعياد، إذ يجلس الناس لمشاهدة السباق بشغف شديد، كما جرت عادتهم بمثل ذلك في الاحتفال بالأعياد والمناسبات. ولقد أولى الخلفاء رعاية كبيرة به، فأسسوا الحلبات ونظموها.
وتكمن مشكلة البحث بأن الكثير من الناس يجهلون شروط وتقاليد سباق الخيل عند العرب.
وهدف البحث تسليط الضوء على أهمية سباق الخيل عند العرب، ومنزلته،والتعرف على أصول وتقاليد سباق الخيل عند العرب،وإبراز رياضة سباق الخيل عند العرب كتراث عربي أصيل.
كما اعتمد البحث في منهجيته على المصادر والمراجع التاريخية التراثية وكتب الحديث والسيرة التي تناولت الموضوع، مستخلصاً الاستنتاجات والتوصيات بعد تفحيصها وتدقيقها وترتيبها وتوبيبها بصيغة البحث العلمي والمنطق التاريخي.




سباق الخيل والفروسية في الجاهلية

قال أبو عبيدة: لم تكن العرب في الجاهلية تصون شيئاً من أموالها ولا تكرمه صيانتها الخيل وإكرامها لها لما كان فيها من العز والجمال والمنعة والقوة على عدوهم حتى أن كان رجل من العرب ليبيت طاوياً ويشبع فرسه ويؤثره على نفسه وأهله وولده فيسقيه المحض ويشربون الماء القراح ويعير بعضهم بعضاً باذالة الخيل وهزالها وسوء صيانتها ويذكرون ذلك في أشعارهم(1).
حدثنا بن جزي الكلبي في كتابه الموسوم ب(كتاب الخيل) قائلا : " كانت العرب في عصر ما قبل الإسلام تراهن على سباق خيلها وتسمى ما تجعل للسوابق سبقا، كانوا يعدون ذلك فخراً يتفاخرون به ويتمادحون بسببه. وكان من عادتهم انه إذا سبق الفرس الحلبة وبرز قلدوه شيئا ليعرف انه سبق وسموه المقلد .
وكان من عادتهم أيضاً أن يمسحوا وجه الفرس إذا جاء سابقا. وكان من عادتهم في عكس هذا المعنى، أن يجعلوا للفرس الذي يجيء في آخر الحلبة حبلاً ويحملوا عليه قردا ويدفعوا إلى القرد سوطا فيركضه القرد ويعير بذلك صاحب الفرس.
وكان بعضهم إذا تخلف فرسه عن الحلبة وجاء سكينا ينصبه ويرميه بالنبل حتى يسقط على الأرض تعدياً منهم وظلماً وتعذيباً للبهائم. وقد فعل ذلك النعمان بن المنذر بفرسه المسمى بالنهب.
وكانوا يستخدمون في سباقهم ورهانهم طريقة القمار التي نصت الشريعة بالمنع والنهي عنها "(2).
أما ابن هذيل فلقد ذكر ما نصه: " وكانت العرب تخاطر على سباق خيلها، وتسمى ما تجعله للسوابق خصلاً ورهاناً وتضعه في طرف الغاية التي إليها، على رأس قصبة من قصب الرماح، وهو قولهم في المثل: حاز قصب السبق، وإنما يعنون هذا وتسمى أيضاً الغاية: المدى والأمد. وتسمى موضوع الجرى المضمار "(1).
ويسمى ميدان السباق عند العرب الحلبة، إذ كانوا يغرسون قصبة في نهايتها، فمن سبق إليها وأقتلعها، يكون هو الفائز. ومراتب السوابق من الخيل إذا جرت، فأولها السابق، ثم المصلى، وذلك أن رأسه عند صلا السابق، ثم الثالث والرابع، وكذلك إلى التاسع، والعاشر السكيت، مشدد، وما جاء بعد ذلك لم يعتد به، والفسكل: الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل. وقد وصف المؤرخون العرب سباق الخيل والرهان في الحلبة.
إذ قال صاحب العقد الفريد: سباق الخيل في الحلبة " مجمع الخيل، ويقال: مجتمع الخيل ". ويقال: مجتمع الناس للرهان. وهو من قوله: جلب بنو فلان على بني فلان واحلبوا إذا اجتمعوا. ويقال منه: حلب الحالب اللبن في القدح، أي جمعه فيه. والمقوس: الحبل الذي يمد في صدور الخيل عند الإرسال للسباق. والمنصبة: الخيل حين تنصب للإرسال.
وأصل الرهان من الرهن، لأن الرجل يراهن صاحبه في المسابقة، يضع هذا رهناً وهذا رهناً، فأيهما سبق فرسه أخذ رهنه ورهن صاحبه.
والرهان : مصدر راهنته مراهنة ورهاناً، كما تقول: قاتلته مقاتلة وقتالاً. وهذا كان من أمر العرب قبل الإسلام، وهو القمار المنهي عنه، فإذا كان الرهن من أحدهما بشيء مسمى، على انه أن سبق لم يكن له شيء، وان سبقه صاحبه أخذ الرهن، فهذا حلال، لأن الرهن إنما هو من أحدهما دون الآخر. وكذلك أن جعل كل واحد منهما رهناً وادخلا بينهما محللاً، وهو فرس ثالث يكون مع الأولين ويسمى الدخيل، ولا يجعل لصاحب الثالث شيء، ثم يرسلون الأفراس الثلاثة فأن سبق أحد الأولين أخذ رهنه ورهن صاحبه، فكان له طيباً، وان سبق الدخيل أخذ الرهنين جميعاً، وإن سبق هو لم يكن عليه شيء. ولا يكون الدخيل إلا رائعاً جواداً " لا يأمنان أن يسبقهما وإلا فهذا قمار لأنهما كأنهما لم يدخلا بينهما محللاً "(2).

أما أسماء الخيل السابقة، قال الأصمعي: السابق من الخيل: الأول، والمصلى: الثاني الذي يتلوه .
قال وإنما قيل له مصل، لأنه يكون عند صلوى السباق، وهما جانبا ذنبه عن يمينه وشماله. ثم الثالث والرابع لا أسم لواحد منهما إلى العاشر، فانه يسمى سكيتاً.
قال أبو عبيدة: لم نسمع في سوابق الخيل ممن يوثق بعلمه أسما لشيء منها إلا الثاني والعاشر، فأن الثاني أسمه المصلى، والعاشر السكيت وما سوى ذينك يقال: الثالث والرابع، وكذلك إلى التاسع، ثم السكيت، ويقال السكيت. فما جاء بعد ذلك لم يعد به .
والفسكل بالكسر: الذي يجيء آخر الخيل، والعامة تسمه الفسكل بالضم، وقال أبو عبيدة: القاشور: الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل، وهو الفسكل وإنما قيل للسكيت سكيت، لأنه آخر العدد الذي يقف العاد عليه.
والسكت: الوقوف. هكذا كانوا يقولون، فإما اليوم فقد غيروا وكان من شأنهم أن يمسحوا على وجه السابق قال جرير:
إذا شئتم أن تمسحوا وجه السابــــق
جـــواد فمدوا فــي الرهان عينانيا(1)

وروى المسعودي في كتابه مروج الذهب أخبار حلبة الخيل ومراتب الخيل فيها . قال : كانت العرب ترسل خيلها عشرة عشرة أو أسفل ، والقصب تسعة ولا يدخل الحجرة المحجرة من الخيل إلا ثمانية ، وهذه أسماؤها :
الأول السابق : وهو المجلي ، قال أبو هندام أم كلاب : إنما سمى المجلي لأنه جلى عن صاحبه ما كان فيه من الكرب والشدة ، وقال الفراء : إنما سمى المجلي لأنه يجلي عن وجه صاحبه .
والثاني المصلى : لأنه وضع جحلفته على قطاة المجلى ، وهي صلاه والصلا : عجب الذنب بعينه .
والثالث المسلى : لأنه كان شريكاً في السبق ، كانت العرب تعد من كل ما تختار ثلاثة ، أو لأنه سلى عن صاحبه بعض همه بالسبق .
والرابع : سمي بذلك لأنه تلا هذا المسلى في حال دون غيره .
والخامس المرتاح : وهو المفتعل من الراحة ، لأن في الراحة خمس أصابع لا يعد منها غيرهن ، وإذا مات العرب من العدد إلى خمس فتح الذي يؤمن بها يده وفرق أصابعه الخمس، وذلك أيضاً ما يؤمنون به من غير عقد الحساب ، ثم يكون بعدها إلى أن تكون عشرة فيفتح الذي يؤمن بها يديه جميعاً ، ويقابل الخمس أصابع بالخمس ، فلما كان الخامس مثل خامسة الأصابع وهي الخنصر سمي مرتاحاً .
وسمي السادس حظياً : لأن له حظاً (وهي آخر الحظوظ خيل الحلبة غير أنه له حظ).
وسمى السابع العاطف : لدخوله الحجرة لأنه قد عطف بشيء وإن قل وحسن إذ كان قد دخل الحجرة المحجورة .
وسمى الثامن المؤمل على القلب والتفاؤل : كما سموا الغلاة مغازة واللديغ سليماً ، وكنوا لحبشي أبا البيضاء ، ونحو ذلك ، فكذلك سموا الخائب المؤمل ، أي أنه يؤمل وإن كان خائباً ، لأنه قرب من بعض ذوات الحظوظ بعد .
والتاسع اللطيم : لأنه لو رام الحجرة للطم دونها ، لأنه أعظم جرماً من السابع والثامن .
والعاشر السكيت : لأن صاحبه يعلوه خشوع وذلة ويسكت
حزناً وغماً(1).
ويكون عدد الفائزين بين كل عشرة خيول سبعة والثلاث الباقية هي الخاسرة(2). وكانوا يضعون عند نهاية الحد الذي يقررونه للسباق قصبة فمن يصل إليها قبل غيره من المتسابقين، يعد السابق لقصبة السبق ، ويكون قد أحرز القصب لأن الغاية التي يسبق إليها تذرع بالقصب. وتركز تلك القصبة عند منتهى الغاية ، فمن سبق إليها حازها واستحق الخطر و( الخطر) الذي يوضع بين أهل السباق ، وقيل الذي يوضع في النضال والرهان في الخيل فمن سبق أخذه والسابق إذا تناول القصبة ، علم أنه قد أحرز الخطر . وكانوا يقلدون السابق من الخيل ، ولا يقلد من الخيل إلا سابق كريم (3).

سباق داحس والغبراء
وأبرز حدث شغب شهدته حلائب سباق الخيل عند العرب هو حرب داحس والغبراء والتي تعد من أشهر أيام العرب .
قال أبو عبيدة : "حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان ، أبني بغيض بن رَيْث بن غطفان . وكان السبب الذي هاجها أن قيس بن زهير وحمل بن بدر تراهنا على داحس والغبراء ، أيهما يكون له السبق ، وكان داحس فحلاً لقيس ابن زهير ، والغبراء حجراً (فرساً) لحمل بن بدر وتواضعا الرهان على مائه بعير ، وجعلا منتهى الغاية مائه غلوة ، والإضمار أربعين ليلة . ثم قادوهما إلى رأس الميدان بعد أن أضمروهما أربعين ليلة ، وفي طرف الغاية شعاب كثيرة . فأكمن حمل بن بدر في تلك الشعاب فتيانا على طريق الفرسين ، وأمرهم إن جاء داحس سابقا أن يردوا وجهه عن الغاية .
قال : " فأرسلوهما فأحضرا ، فلما أحضرا خرجت الأنثى من الفحل . فقال حمل أبن بدر: سبقتك ياقيس . فقال قيس : رويدا يعدوان الجدد إلى الوعث وترشح أعطاف الفحل . قال : فلما أوغلا في الجدد وخرجا إلى الوعث برز داحس عن الغبراء . فقال قيس : جرى المُذكيات غلاء ، فذهبت مثلا . فلما شارف داحس الغاية ودنا من الفتية ، وثبوا في وجه داحس فردوه عن الغاية . ففي ذلك يقول قيس أبن زهير :
وما لاقيتُ من حَمل بن بَـــدر وإخوتـــــه على ذاتِ الإصادِ
هم فَخروا علىّ بغير فَخــــرٍ وردّوا دون غايتـــــه جَوادى
وثارت الحرب بين عبس وذبيان، ابني بغيض ، فبقيت أربعين سنة، امتدت من سنة 568 إلى سنة 608 للميلاد لم تنتج لهم ناقة ولا فرس لاشتغالهم بالحرب "(1).
وقد استمرت إلى ما بعد ظهور الإسلام، وظلت سنوات طويلة حتى تدخل سيدان من ذبيان هما هرم بن سنان والحارث ابن عوف المرئ فتحملا ديات القتلى وبذلك وضعت أوزارها بين القبيلتين ومن كان قد أنضم إليهما من الأحلاف، فقد انضمت عامر إلى عبس بينما انضمت تميم وأسد إلى ذبيان(2). وفي هذه الحرب اشتهر عنترة بن شداد العبسي بجولاته الصادقة ، وقد عاش عنترة فيما بعد بين سنتي (525 ـ 615م) تقريبا ، وهو يعد من أعظم أبطال العرب وأشهر شعراء العصر(3).

سباق الخيل في صدر الإسلام

يأتي اهتمام الإسلام بالخيل امتدادا لاهتمام العرب بها ، كونها وسيلة من وسائل الحرب ، وأداة من أدوات الجهاد ، يدافع المؤمنون عن دينهم ، ويواجهون المشركين حيث يضطرون إلى الحرب ، وقد ورد الثناء عليها في القرآن الكريم ، كما أقسم الله سبحانه وتعالى بها ، وتأتي أحاديث رسول الله محمد (r) مؤكدة حبه للخيل واعتزازه بها وإكرامه لفضلها ، وهو تنفيذ لأمر الله تعالى وطاعة له ، حيث رسخت هذه الأحاديث أصول تقاليد الفروسية ومسابقة الخيل والرهان عليها في الإسلام ، فالرسول محمد (r) حث المسلمين ورغبهم على تعلم الفروسية وإتقانها ، وجعل لها شأن كبير ، ومنزلة رفيعة في المجتمع الإسلامي ، لما لها من فوائد جمة ، منها : ركوب الخيل والكر والفر بها ، لأنه أصل الفروسية وقاعدتها ، وكذلك إتقان الرمي بالقوس ، والمطاعنة بالرماح والمداورة بالسيف بمهارة فائقة ، لغرض ديني يتمثل في إعداد المسلمين إعداداً أمثل للجهاد في سبيل الله تعالى لنشر العقيدة الإسلامية ، وغرض دنيوي وترويحي .

المسابقة والرهان في الإسلام

أما في مجال مسابقة الخيل والرهان عليهـا ، فقد ثبت عن رسول الله (r) أنـه سابق الخيل وسبق وراهـن عليها ، ونظم مبارياتهـا ، وحضرهـا بنفسه الكريمة ، وأعطى للفائزين جوائز وهدايا ، وكـانت غايـة رسول الله (r) تنصب على تقوية دوافع المسلمين نحـو الفروسية ، والتحريض على تعلم فنونها بدقة عالية ومتناهية ، فهي خير حافز ديني ومادي ومعنوي لترغيب الناس على مزاولة التدريب بهمة عالية ، وشغف شديد لتصعيد وتائر قدراتهم وكفاءاتهم واستعدادهم للبذل والعطاء ، وغرس روح محبـة العمل والمواظبة ،والتفاؤل بالأمل، وخلق حـالات السرور والحبور والبهجـة لديهم ، لغـرض تحسين مستوى الأداء الأمثل ، لتحقيق أعلى مراتب الفوز فـي مسابقة الخيل والرهان عليهـا ، فمسابقـة الخيل يقصد بها التعليم ، والتمرين ، والتدريب ، والتحريض على الفروسية والشجاعة(1)، وهي متطلبات أساسية وضرورية لتحقيق الأغراض الدينية والدنيوية والترويحية.
وقد جاء عن الرسول محمد (r) في باب مسابقة الخيل والرهان عليها أحاديث كثيرة وأخبار عدة ، فمن ذلك :
 ما روى عن أنس بن مالك (t) قال : " سابق رسول الله (r) أعرابي فسبقه "(2).
 وعن أبي أيوب الأنصاري أن النبي محمد (r) قال : " لا تحضر الملائكة شيء من اللهو إلاّ ثلاثة لهو الرجل مع امرأته ، وإجراء الخيل والنضال "(3).
 وفي رواية عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله (r) : " أحب اللهو إلى الله تعالى إجراء الخيل والرمي " (4).
 وروي عن أبي هريرة (r) قال : قال رسول الله (r) : " لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل "(5).
 وفي رواية أخرى عن أبي هريرة (t) قال : قال رسول الله (r) : " لا سبق إلاّ في خف أو حافر "(6).
 وعن أبي هريرة (t) قال : قال رسول الله (r) :" لا يحل سبق إلاّ على خف أو حافر " (7).
 ورُوي عن أبن عمر أن النبي (r) سابق بين الخيل وجعل بينها مجالاً وقال : " لا سبق إلاّ في خف أو نصل " ( ، فالخف : للإبل ، والحافر للخيل والنصل للرمي ، ومعناه لا يحل أخذ المال في المسابقة إلاّ إذا كانت على خيل أو إبل ونحوهما أو في الرمي بالسهام لأن هذه عدة الجهاد في سبيل الله وترغيب به وتحريض عليه (9).
 ورُوي عن أبي هريرة (t) قال : " أن رسول الله (r) كان يسابق بين الخيل في المدينة، وفي انصرافه من مغازيه (1). وفي المخصب في مكة "(2).
 وما رُوي عن أبن عمر (t) قال : " سابق النبي (r) بين الخيل التي قد أضمرت فأرسلها من الحفياء(3)، وكان أمدها ثنية الوداع(4)، فقلت لموسى فكم كان بين ذلك قال : ستة أميال أو سبعة ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر فأرسلها من ثنية الوداع وكان أمدها مسجد بني زريق ، قلت فكم بين ذلك قال : ميل أو نحوه ، وكان عمر ممن سابق فيها " ، رواه الخمسة (5).
فالخيل المضمرة : هي التي علفت حتى سمنت وقويت ثم قلل علفها مدة وأدخلها بيتاً كنيناً وتجليلها فيه لتعرق ويجف عرقها ويذهب رهلها فيصلب لحمها وتجف وتقوى على الجري . وكان النبي محمد (r) يضمر الخيل وذكر أبن بنين أن رسول الله (r) كان يأمر بإضمار خيله بالحشيش اليابس شيئاً بعد شيء وطياً بعد طي ويقول: أروها من الماء واسقوها غدوة وعشياً وألزموها الجلال فتصفو ألوانها وتتسع جلودها. وكان عليه السلام أمر أن يقودها كل يوم مرتين ويؤخذ منها من الجري الشوط والشوطان ولا تركض حتى تنطوي(6).
 كما روي عن نافع عن عبد الله بن عمر (t) قال : " أجرى النبي (r) ما ضُمَّر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع ، وأجرى ما لم يُضَمر من الثنية إلى مسجد بني زريق قال : ابن عمر وكنت فيمن أجرى . قال سفيان بين الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة ، وبين ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل " ، رواه الخمسة(1).
 ورُوي عن عبد الله بن عمر (t) : إن رسول الله (r) سابق بين الخيل التي تضمرْ وكان أمدها من الثنية إلى مسجد بني زريق وان عبد الله بن عمر كان سابق بها ، قال عبد الله : فجئت سابقاً فطفف بي الفرس المسجد (2)، وزاد الدار قطني ، قال عبد الله : " كنت فارساً يومئذ ، فسبقت الناس ، وطففت بي الفرس حائط المسجد ، وكان قصيراً" (3).
 وحدثنا أبو عبيدة عن أبن عمر ، أن رسول الله (r) سبق بين الخيل وأعطى السبق وأمر بها أن تضمر وجعل غاية الربع والجذاع من الغاية وأجرى الضمر من الحفياء وجعل الغاية المصلى (4).
 ورُوي عن أبن عمر، أن النبي (r) كان يضمر الخيل يسابق بها (5).
 وعن ابن عمر : أن النبي (r) سبق بين الخيل ، وفضل القُرح في الغاية (6)، والقرح : جمع قارح : وهو من الخيل الذي دخل في السنة الخامسة .
 وقال أبو الحسن : " أجرى رسول الله (r) الخيل وسبق بينهما ، فجاء فرس له أدهم سابقاً، فجثا رسول الله (r) على ركبتيه وقال : ( ما هو إلاّ بحرٌ )(7)، فقال عمر بن الخطاب: كذب الحطيئة حيث يقول :
وان جياد الخيل لا تستفزنا ولا جاعلات العاج فوق المعاصم
وقد زعم ناس من العلماء أنه لم يستفزه سبق فرسه ، ولكنه أراد إظهار حب الخيل وتعظيم شأنها " (1).
 وروي عن مكحول : أن رسول الله (r) سبق الخيل ، فجاء فرسه الأدهم سابقاً ، فلما رأى ذلك جثا على ركبتيه وقال : " إنه لبحر " ، فقال عمر (t) : كذب الحطيئة ! لو كان أحدٌ ناجياً من هذا لنجا رسول الله (r) قال أبو علي: أراد عمر بقوله هذا البيت:
فأن جيـــاد الخيل لا تستفزنا ولا جاعلات العاج فوق المعاصم
لو كان صابراً أحدٌ عن الخيل لكان رسول الله (r) أولى بذلك(2).
 وفي رواية أخرى : أن رسول الله (r) أجرى الخيل يوماً فجاء فرس له أدهم سابقاً وأشرف على الناس فقالوا : الأدهم ! الأدهم ! وجثا رسول الله (r) على ركبتيه ومرَّ به وقد أنتشر ذنبه وكان معقوداً ، فقال رسول الله (r) : " انه لبحر " (3).

أول مسابقة بين الخيل :
لقد سابق رسول الله (r) بين الخيل وراهن عليها، وأول مسابقة كانت في الإسلام سنة 6 هجرية 627 ميلادية ، وسابق رسول الله (r) بين الخيل، فسبق فرس لأبي بكر الصديق (t) فأخذ السبق (4)، والمسابقة مما كان في الجاهلية فأقره الإسلام ، وليس هو من باب تعذيب البهائم ، بل من تدريبها بالجري وإعدادها لحاجتها للطلب والكرِّ (5)، ولقد سنَّ رسول الله (r) سنة مسابقة الخيل ، أصبحت فيما بعد تقليداً ونظاماً ألزم الناس كافة الأخذ به عند إجراء مسابقات الخيل وتطبيقه ، تجنباً لوقوع المنازعات والمعارك الدامية بينهم ، والمشاحنات الطويلة الأمد ، والتي كانت كثيراً ما تؤدي إلى الاقتتال الدامي ، وتكون سبباً في غرس بذور العداوة بين القبائل التي قد لا تنتهي كحرب الداحس والغبراء ، وكانت أحاديث رسول الله (r) وسيرته الشريفة في سباق الخيل والرهان دليلاً يقتفى وسنة تتبع في هذا المجال .
 حيث رُوي عن أنس (t) : وقيل له : أكنتم تراهنون على عهد رسول الله (r) ؟ أكان رسول الله (r) يراهن قال : نعم والله . لقد راهن على فرس يقال له سبحة ، فسبق الناس فبهش لذلك وأعجبه (1).
 وسئل ابن عمر (t) : أكنتم تراهنون على عهد رسول الله (r) فقال : لقد راهن رسول الله (r) على فرس له(2).
 وعن عبد الله ابن عمر (t) : أن النبي (r) سابق بين الخيل وراهن(3).
 وقال عليه الصلاة والسلام : " إن الملائكة لا تحضر شيئاً من لهوكم إلاّ الرهان والنضال(4) "(5).
 عن مالك عن يحيى بن سعيد : أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلّل ، فان سَبق أخذ السبق ، وإن سُبق لم يكن عليه شيء(6).
 ورُوي عن أبي هريرة عن النبي (r) قال : " من أدخل فرساً بين فرسين " يعني وهو لا يؤمن ان يسبق " فليس بقمار ، ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمِن ان يَسْبقَ فهو قمار "(7).
وأصل الرهان من الرهن ، لأن الرجل يراهن صاحبه في المسابقة ، يضع هذا رهناً وهذا رهناً ، فأيهما سبق فرسُه أخذ رْهَنه ورهن صاحبه ، والرهان ، مصدر راهنته مراهنة ورهاناً. وهذا كان من أمر الجاهلية، وهو القمار المنهى عنه، فإن كان الرهن من أحدهما بشيء مسمَّى على أنه إن سبق لم يكن له شيء، وان سبقه صاحبه أخذ الرهن، فهذا حلال، لأن الرهن إنما هو من أحدهما دون الآخر وكذلك أن جعل كل واحد منهما رهناً وأدخلا بينهما محللاً، وهو فرس ثالث يكون مع الأولين، ويسمى الدّخيل، ولا يجعل لصاحب الثالث شيء، ثم يرسلون الأفراس الثلاثة، فإن سبق أحد الأولين أخذ رهْنه ورهن صاحبه فكان له طيباً، وان سبق الدخيل أخذ الرهنين جميعاً، وان سبق هو لم يكن عليه شيء، ولا يكون الدخيل إلاّ رائعاً جواداً، لا يأمنان أن يسبقهما، وإلاّ فهذا قمار، لأنهما كأنهما لم يُدخلا بينهما محللاً (1)، فأما إذا سبُق الأمير بين الخيل وجعل للسابق منهما جُعلاً أو قال الرجل لصاحبه: إن سبقت فلاناً فلك عشرة دراهم ، فهذا جائز من غير محلل والله أعلم(2)، وسمي المحللُ محللاً لتحليله السبق بدخوله، لأنه علم ان المقصود بدخوله السبق لا المال، وإذا لم يكن بينهما محلل فمقصدهما المال والمخاطرة فيه(3).
• والمسابقة بالخيل على قسمين :
القسم الأول: المسابقة بها على غير رهان.
القسم الثاني: المسابقة بها على الرهان(4).
 ومن شرط وضع الرهان في المسابقة: أن تكون الخيل متقاربة الحال في سبق بعضها بعضاً، فمتى تحقق حاُل أحدِها في السَّبق كان الرهان في ذلك قماراً لا يجوز، وإدخالا لمحلّل لغواً لا معنى له، وكذلك إن كانت متقاربة الحال مما يقطع غالباً بسبق جنسها، كالمضمرة مع غير المضمرة، والعِراب مع غيرها، فلا تجوز المراهنة في مثل هذا، وقد ميز النبي (r) ما ضمر في السباق، وأفرده عمّا لم يضَّمر، وتجوز فيها المسابقة بغير رهان، وإنما يدخل التحليل والتحريم مع الرهان.
 ومن شرطها أيضاً الأمد لسباقها، وحكي عبدُ الله بن المبارك عن سفيان قال: إذا سبق الفرس بأذنه فهو سابق، هذا إذا تساوت أعناق الخيل في الطول، فإن اختلفت أعناقها بالطول والقصر كان السبق بالكاهل(5).
 ومن شروط المسابقة أيضاً: فقد نهى النبي (r) عن الجلب والجنب في السباق، فقد رُوي عن عمران بن حصين، عن النبي (r) قال: " لا جلب ولا جنب "، زاد يحيى في حديثه (في الرهان).
وعن قتادة قال: الجلب والجنب في الرهان(6)، وأخرجه الترمذي بزيادة، وهذا لفظه، قال: " لا جلب، ولا جنب ولا شغار في الإسلام، ومن انتهب نهبة فليس منا "(7).
ورُوي أيضاً عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله (r): " لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام "(1).
فالجلب: هنا أن يتبع فرسه برجل يحثها على سرعة الجري.
والجنب: أن يجنب فرساً إلى فرسه إذا فترت تحول إلى المجنوب، فالجلب والجنب لا يصحان في المسابقة، فأبطلها رسول الله (r).




سباق الخيل في العصر الأموي

وقد أهتم الخلفاء الأمويون وعمالهم بها اهتماماً كبيراً، وشغفوا بها شغفاً بالغاً، واعتنوا بها عناية فائقة، إذ نظموا حلائب السباق لإجراء مسابقات الخيل عليها، ومثل ما أحبوا المراهنة، أغدقوا العطاء للفائزين والتزموا بتعليمات الشريعة الإسلامية التي سنها الرسول محمد (r) التي تخص سباق الخيل والرهان عليها.
وكان للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية (661م ـ 680م) حلبة يخرجون إليها في أيام معينة للسباق، فمن حاز قصب السبق أجازوه . وهي قصبة توضع في نهاية الحلبة أو مكان السباق فمن سبق إليها وأقتلعها وجاء بها فهو الفائز(1).
أما الخليفة يزيد بن معاوية (680م - 683م) فقد كان من أشد الأمويين كلفاً بسباق الخيل، إذ كان يجري السباق في الحلبة ويحضر معه قرده الذي يسابق الخيل، ويكنى القرد بأبي قيس يسابق به الخيل يوم الحلبة فجاء في بعض الأيام سابقاً، فتناول القصبة ودخل الحجرة قبل الخيل وعلى أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر مشمر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمع بأنواع من الألوان (1) .
وولع أمراء وولاة الخليفة عبد الملك بن مروان بسباق الخيل وإقامة الحلبة. فقد روى: بأن بشر بن مروان أمير العراق كان مولعاً بسباق الخيل وكذلك كان ابنه عبد الملك بن بشر. فقد جاء في البيان والتبيين للجاحظ في أن فرساً لعبد الملك بن بشر قد سبقت، فقال له إسماعيل بن الأشعث: " والله لأرسلن غداً مع فرسك فرساً لا يعرف أن أباك أمير العراق"(2).
وأهتم الخليفة سليمان بن عبد الملك (715م ـ 717م) بسباق الخيل، إذ أمر بإقامة سباق كبير تجتمع فيه الخيول والفرسان ولكن المنية قد وافته، " وسليمان فلم يهمل أمرها…. وأعد العدة لسباق عظيم تشترك فيه خيول الأمة ولكنه مات قبل أن تجري الحلبة " (4).
على إن وفاة الخليفة سليمان بن عبد الملك لم تلغ السباق الذي أمر بإقامته، إذ أقامه الخليفة عمر بن عبد العزيز (717م ـ 720م) بعد أن أبى أن يجريها فقيل له يا أمير المؤمنين تكلف الناس مؤونات عظاماً وقادوها من بلاد بعيدة وفي ذا غيظ للعدو، فلم يزالوا يكلمونه حتى أجرى الحلبة وأعطى الذين سبقوا ولم يخيب الذين لم يسبقوا، أعطاهم
دون ذلك)(1).
وكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى ولاته يمنعهم (عن ركض الخيل من غير حق )(2). لكي لا يستغل السباق لأغراض أخرى.
وأهتم الخليفة هشام بن عبد الملك (724م ـ 743م) بسباق الخيل اهتماماً كبيراً، حيث أقام في زمانه أضخم وأكبر سباق حيث روى المسعودي بأنه " أقام الحلبة فأجتمع ما اجتمع له فيها من خيله وخيل غيره أربعة آلاف فرس، ولم يعرف ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس، وقد ذكرت الشعراء ما اجتمع له من الخيل " (3) ، " وكان هناك أربعة آلاف جواد في إصطبلاته وإصطبلات غيره في سباق كان ينظمه هو بنفسه " (4).
وكان ابن هبيرة عامل الخليفة هشام بالعراق قد أنشأ حلبة لسباق الخيل في العراق، وكان أهل العراق يشتركون في السباق بجيادهم، كما شغفوا بألعاب الفروسية(2).
وكان الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان (743م ـ 744م) مولعاً بالخيل وحبها وجمعها وإقامة الحلبة وللوليد أخبار حسان في جمعه الخيول في الحلبة، وكان ألسندي فرسه جواد زمانه، وكان يسابق به في أيام هشام، وكان يقصر عن فرس هشام المعروف بالزائد، وربما ضامه وربما جاء مصلياً (3).
وأجرى الوليد بالرصافة (الشام) وأقام الحلبة، وهي يومئذ ألف قارح، ووقف بها ينتظر الزائد، ومعه سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص وكان له فيها جواد يقال له المصباح، وللوليد أخبار حسان في جمعه الخيول في الحلبة، فأنه اجتمع له في الحلبة ألف قارح، وجمع بين الفرس المعروف بالزائد والفرس المعروف بالسندي وكان قد برزا في الجري على خيول زمانهما (1).
وكانت الأميرات ونساء الخلفاء يتدربن على ركوب الخيل (2)، ويشتركن في السباق وكانت لهن خيل تسبق وكانت عائشة بنت هشام بن عبد الملك تسير معه في موكبه لإعجابه بها وكانت لها خيل تسبق (3).
سباق الخيل في العصر العباسي

وكان سباق الخيل من أبرز ضروب الرياضة في العصر العباسي. وكان من أحب ألوان التسلية عند الخلفاء والأمراء والولاة وكبار رجال الدولة، وعامة الشعب. وكانت حلبة السباق تُعَّدُ بمثابة الأعياد، إذ يجلس الناس لمشاهدة السباق بشغف شديد، كما جرت عادتهم بمثل ذلك في الاحتفال بالأعياد والمناسبات. ولقد أولى الخلفاء رعاية كبيرة به، فأسسوا الحلبات ونظموها، كما اعتنوا بتربية الخيل إعتناءاً فائقاً، ومارسوا التدريب على الفروسية والعابها، وزاولها الناس بهمة عالية ونشاط كبير حتى أصبحت من أحب ألوان التسلية إلى نفوسهم.
وتعد مسابقات الخيل من أروع المهرجانات الشيقة التي كانت تستهوي الخلفاء والوزراء وكبار رجال الدولة وعامة الشعب لقضاء أوقات سعيدة بهيجة بريئة.
وكان سباق الخيل يحضره الخلفاء بأنفسهم، وكذلك عامة الناس للتسلية حيث يقام. وكانت العامة تتحمس للحصان الفائز فتبادر إلى تهنئة صاحبه وكانت الفروسية مطمح أنظار الشباب إذ تستهوي قلوبهم لما فيها من ألوان الشجاعة ولهذا رأينا الشباب من العامة يمارسونها فيتخذون لهم أزياء خاصة كحلق شعورهم بأشكال معينة. وبراعتهم في استخدام السلاح مثل الضرب بالسيف والرمي عن القوس بالنبل(1).
وأقام الخلفاء العباسيون في عهودهم ميادين كثيرة يدربون فيها خيولهم ومنها يرسلونها إلى الحلبة، فكان لهذه المباريات التي تقام في السباق أكبر الأثر في تحسين جنس الخيل. وشغف الناس بالسباق وكان اهتمامهم به أن السابق يستولي على الحصان المسبوق وذلك عام(190هـ ـ 806م).
وتنافس الخلفاء والوزراء في تربية خيل السباق وقد أباح الفقهاء هذا اللون من الرياضة الترويحية على أن لا يكون وسيلة للحصول على المال وكانت لهم ميادين كبيرة في الرقة والشماسية والكرخ وبغداد (2).
وكانت حلبة السباق بمثابة الأعياد لما كان يصحبها من إقامة معالم الزينة وركوب الغلمان والعساكر على كثرتهم بالعُدد الكاملة والأسلحة التامة وفي هذه الحلبات يجلس الناس لمشاهدة السباق. وقد وصف بعض الفقهاء عرض الخيل: " بأنه من عجائب الإسلام الأربعة، وهي هذا العرض ورمضان بمكة والعيد بطرطوس والجمعة ببغداد " (3).
وكان الخلفاء العباسيون يشجعون الفرسان ويكرمونهم ويحرصون أشد الحرص على مشاهدة مسابقات الخيل بأنفسهم.
فكان الخليفة أبو العباس عبد الله السفاح ( 750م ـ 754م) يجري سباق الخيل في المدائن. وغلبت مرة خيل خالد بن برمك خيله، فلم يغضب لذلك (4).
أما الخليفة المنصور بن محمد (757م ـ 775م) فكان يجري سباق الخيل في موضع يدعى الرصافة بظهر الكوفة، فأقام بها أياماً (5).
وكان الخلفاء العباسيون يدربون أولادهم منذ صغرهم على ركوب الخيل والعاب الفروسية على أيدي جماعة من نوابغ الفرسان الذين كانوا يقومون بتدريب أبناء الأمراء والقواد.
وكان الخليفة المهدي بن المنصور (775م ـ 785م) من أشد الخلفاء رغبة في تثقيف بنيه ثقافة عسكرية رياضية، وأكثرهم رغبة في تقوية أجسامهم وتدريبهم على المتاعب والمخاطر، وتهيئتهم لتحمل أعباء الإمارة والملك، وكل ما يقتضيه ذلك العهد من أسفار وغزو وجهاد (1).
وشجع المهدي أولاده ومنهم هارون الرشيد على مزاولة الفروسية وركوب الخيل واختيار المشرفين عليهم اختياراً متقناً كما شجع ابنته (البانوقة) على ركوب الخيل وكانت تصحب أبيها في أسفاره وهي صبية.
فكان الخليفة هارون الرشيد بن المهدي (786م ـ 809م) يمارس الرياضة على أنواعها. وبخاصة ركوب الخيل والعاب الفروسية حيث مهر بها. فكان فارساً يحسن الطراد على الخيل إلى حد الإعجاب، وله في الفروسية العاب كثيرة يمارسها في أوقات فراغه. كطعن الأهداف وضرب الأشباح المنصوبة بالسيف وهو على صهوة جواده منطلقاً بأقصى سرعته، ورمي الجريد، والتصويب بالسهام …. وله في كل هذه الألعاب مسابقات يعقدها بنفسه مع مشاهير قواد جيشه وأمراء آل بيته، فيغلبهم ويغلبونه (2). وكانت له حقول وإسطبلات لتوليد عناق الخيل وتربيتها وتمرينها، ولديه من جيادها عدد كبير جداً، خصصت لها الحقول الخضراء، وميادين للسباق في الكرخ والرصافة وفي الرقة حيث يقضي فصل الصيف. وكان يجريها مع خيول الأمراء والوزراء والقواد، ويخصص لها الجوائز الضخمة، ويحضر سباقاتها بنفسه … ويشرف على العناية بخيله عدد كبير من أمهر الأخصائيين العرب، وقد بلغ عددهم المئات ولهم بيت مال خاص يصرف على رواتبهم وجوائزهم. ولهم أيضاً رؤساء بلغوا مكانة اجتماعية بين رجال حاشيته وفي مقدمتهم ( ذفافة العنسي ) ويدعى: ( صاحب خيل هارون الرشيد ) (3).
فقد أجرى الرشيد الخيل يوماً بالرقة، فلما أرسلت، صار إلى مجلسه في صدر الميدان حيث توافى إليه الخيل، فوقف على فرسه وكان من أوائل سوابق من خيله يقدمها فرسان في عناق واحد لا يتقدم احدهما صاحبه فتأملها فقال: فرسي والله، ثم تأمل الآخر فقال: فرس ابني المأمون، قال: فجاء يحتكمان أمام الخيل، وكان فرسه السابق وفرس المأمون الثانية فسر بذلك(4).
وحدثنا الأصمعي: أن هارون الرشيد ركب إلى الميدان لشهود الحلبة.
وقال الأصمعي: فدخلت الميدان لشهودها فيمن شهد من خواص أمير المؤمنين، والحلبة يومئذ أفراس للرشيد ولولديه الأمين والمأمون ولسليمان بن أبي جعفر المنصور ولعيسى بن جعفر. فجاء فرس أدهم يقال له الربد (السريع من الخيل) لهارون الرشيد، سابقاً فأبتهج لذلك ابتهاجاً علم ذلك في وجهه.
وغلب على الخليفة المعتصم بالله بن الرشيد (833م ـ 842م) حب الفروسية(1).
واعتنى الخليفة المقتدر بالله بن المعتضد (908م ـ 942م) بسباق الخيل، وكان يحرص على مشاهدة هذه الرياضة(2).
وكان الخليفة المتقي بالله بن المقتدر (940م ـ 944م) يحب السماع في خلوته إلى أخبار الخيل وصفاتها، وما قيل في سباق الخيل من جميل الشعر(3).
وفي مصر فقد عنى أحمد بن طولون بسباق الخيل، وشيد مكاناً لعرض الخيل سماه (المنظر).
وقد وصف القضاعي المؤرخ والفقيه هذا العرض فقال: " المنظر بناه أحمد بن طولون في ولايته لعرض الخيل، وكان عرض الخيل من عجائب الإسلام الأربعة التي منها هذا "(4). وسار على نهجه السلاطين والملوك في مصر والشام والأندلس.












ثبت المصادر والمراجع

 القرآن الكريم.
 أبن الأثير، أبو الحسين علي بن أبي الكرام محمد الشيباني والملقب بعز الدين: الكامل في التاريخ، 12 جزءاً، دار الطباعة، القاهرة، 1290هـ.
 أبن الأثير، الأمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الأثير الجزري، جامع الأصول في أحاديث الرسول (r)، نشر ويوزيع مكتبة الحلواني ومطبعة الملاح.
 أبن القيم، شمس الدين أبي عبد الله محمد أبن أبي بكر أيوب الزرعي: الفروسية، مطبعة الأنوار 1941م.
 ابن الكلبي: انساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها، تحقيق أحمد زكي الباشا، الطبعة الأولى، مطبعة دار الكتب المصرية، 1946م.
 ابن تغري بردى، جمال الدين أبي المحاسن يوسف: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب.
 أبن جزي، عبد الله بن محمد بن جزي الكلبي الفرناطي، كتاب الخيل مطلع اليمين والاقيال في انتقاء كتاب الاحتفال. دار الغريب الإسلامي، بيروت ـ لبنان.
 أبن عبد الحكم، أبو محمد عبد الله: سيرة عمر بن عبد العزيز، الطبعة الثانية، مكتب دار الفكر، دمشق، 1964م.
 أبن عبد ربه، أبو عمر احمد بن محمد الأندلسي، العقد الفريد. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1965، القاهرة.
 ابن ماجه، الحافظ ابن عبد الله محمد بن يزيد القزويني بن ماجه: سنن ابن ماجه، دار الفكر للطباعة.
 أبن هذيل، علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي، حلية الفرسان وشعار الشجعان. دار المعارف للطباعة والنشر، القاهرة 1940م.
 أبو داود، الأمام أبي سليمان بن الأشعث السجستاني الازدي: سنن أبي داود، نشر وتوزيع محمد علي السيد.
 أبو عبيدة، معمر بن المثنى التيمى تيم قريش، المتوفي سنة (209هـ) بالبصرة: كتاب الخيل، الطبعة الأولى، بمطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن (الهند)، 1358هـ.
 الآلوسي، سالم، ميادين السباق في سامراء. مجلة الأقلام العدد3 ، لسنة 1964، بغداد ، العراق
 الآلوسي، فاروق عبد الرزاق حسين علي: الحياة الاجتماعية في العراق في العصر الأموي، رسالة دكتوراه (غير منشورة)، كلية التربية الأولى ، ابن رشد في جامعة بغداد، 1995م.
 الأصبهاني، أبي الفرج علي بن الحسين: الأغاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت ، لبنان.
 البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري. مطبوعات محمد علي وأولاده بميدان الأزهر بمصر.
 البخشي، محمد البخشي الحلبي، رشحات المداد فيما يتعلق بالصافينات الجياد. الطبعة الأولى 1930م المطبعة العلمية، حلب.
 الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: البيان والتبين، الطبعة الخامسة، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1985م.
 الجهشياري، أبو عبد الله محمد بن عبدوس، الوزراء والكتاب. مطبعة الحلبي، القاهرة، الطبعة الأولى 1938م.
 الجومرد، عبد الجبار، هارون الرشيد دراسة تاريخية اجتماعية سياسية. مطبعة دار الكتب، بيروت، 1956م.
 الحاكم، الإمام الحافظ أبي عبيد الله الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين، دار الكتاب العربي، بيروت ـ لبنان.
 الحموي، الشريف السيد أحمد بن محمد: النفحات المسكية في صناعة الفروسية، حققه وعلق عليه عبد الستار القرغولي، مطبعة التفيض، بغداد، 1369هـ ، 1950م.
 الدارقطني، الإمام علي بن عمر الدار قطني: سنن الدار قطني، دار المحاسن للطباعة، القاهرة.
 الدمياطي، الأمام الحافظ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطي المصري، فضل الخيل. الطبعة الأولى، المطبعة العلمية، حلب 1930م.
 الدينوري، أحمد بن داود: الأخبار الطوال، الطبعة الأولى، أحياء الكتب العربية، القاهرة، 1960م.
 السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن: تاريخ الخلفاء، الطبعة الثانية، المكتبة التجارية بمصر، 1959م.
 الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: تاريخ الطبري وتاريخ الأمم والملوك، الطبعة الأولى، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت ، لبنان 1985م.
 المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، الطبعة الثالثة، مطبعة السعادة بمصر 1958م.
 المقريزي، أحمد بن علي بن عبد القادر تقي الدين: كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المعروف بالخطط المقريزية، دار صادر، بيروت.
 النسائي: سنن النسائي، شرح الحافظ جلال السيوطي وحاشيته الأمام السندي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
 النصولي، أنيس زكريا: الدولة الأموية في الشام، الطبعة الأولى، مطبعة دار السلام، بغداد، 1927م.
 النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب: نهاية الأرب في فنون الأدب، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة.
 جواد، مصطفى وسوسة، احمد، دليل خارطة بغداد المفضل، بغداد 1958م.
 حتي، فيليب، وآخرون: تاريخ العرب مطول، مطبعة دار الكشاف العربي، بيروت، 1965م.
 حسن، إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي. الطبعة الأولى 1967م، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.
 زيدان، جرجي: تاريخ التمدن الإسلامي، مطبعة دار الهلال، مصر، 1958م.
 سوسة، احمد، ري سامراء في عهد الخلافة العباسية، بغداد، 1948م.
 شوقي ضيف: العصر الجاهلي، دار المعارف، مصر، القاهرة.
 علي، سيد أمير: مختصر في تاريخ العرب، الطبعة الأولى، مطبعة دار الملايين، بيروت، 1961م.
 فهد، بدري محمد: العامة ببغداد في القرن الخامس الهجري، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1967م.
 مالك: موطأ مالك، تنوير الحوالك، شرح جلال الدين عبد الرحمن السيوطي الشافعي، مصر، مطبعة الاستقامة بالقاهرة.
 متز، آدم: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت ، لبنان.
 مجهول، مصنف: العيون والحدائق في أخبار الحقائق، مكتبة المثنى ، بغداد (طبعة ابريل 1871).
 مسلم، الأمام ابن الحسين مسلم بن الحجاج القشيري الينسابوري: صحيح مسلم، دار أحياء التراث العربي.
 ناصيف، منصور علي: التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول (r)، الناشر دار الغدير، بيروت، بغداد، 1986م.
 نافع، محمد مبروك: عصر ما قبل الإسلام، تاريخ العرب، الطبعة الثانية، مطبعة السعادة بمصر، 1952م.
 ياقوت الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله: معجم البلدان، لايبزك، 1924م.
 الويس، كامل طه: رياضة الفروسية وسباق الخيل عند العرب، ندوة التربية الرياضية عند العرب، مركز أحياء التراث العلمي العربي جامعة بغداد، 1988م.
مع تحياتى
قطرى وافتخر

ررررررررراااااااااااااااااااااائع