في وقت مضى، وأثناء تفريغي لقدر كبير من الماء استخدمته في طهي معكرونة، توقفت للحظة انتظارا لتلاشي الضباب من سطح نظارتي، وحينها طرأ على ذهني تساؤل بسيط: لماذا نغلي مثل هذا القدر الضخم من الماء الذي يزيد بكثير على ما تمتصه المعكرونة بالفعل، ونلقي بالماء الزائد في النهاية؟ ألا يمكننا طهي المعكرونة باستخدام قدر أقل من الماء والطاقة؟ وسرعان ما أعقب ذلك تساؤل آخر: إذا تمكنّا من ذلك، ماذا سيكون رد فعل المدافعين عن التقليد الإيطالي في صنع المعكرونة ؟
وبعد عدد من التجارب، توصلت إلى أن بمقدورنا بالفعل طهي المعكرونة باستخدام أكواب قليلة من الماء وتوفير قدر كبير من الطاقة.
ربما لا يكون هذا الكم الموفر من الطاقة بالضخم بالنسبة لاستهلاك مطبخك أو مطبخي ـ فهو القدر اللازم لاستمرار عمل الموقد على أعلى طاقة له لبضعة دقائق إضافية.
إلا أنه بالنظر إلى أن الأميركيين يطهون سنويا نحو مليار رطل من المعكرونة، فإن هذه الدقائق قد تصل إلى إجمالي ضخم.
طبقا لتقديراتي غير الدقيقة، فإن حجم طاقة تشغيل الموقد التي يمكن توفيرها من خلال ذلك قد تصل إلى عدة تريليونات وحدة حرارية بريطانية (B.T.U.).
وداخل مصنع لإنتاج الطاقة، فإن ذلك يعني توفير ما يتراوح بين 250.000 و500.000 برميل من النفط، أو ما يتراوح بين 10 و20 مليون دولار طبقا للأسعار الحالية، وهي أرقام كبيرة، رغم أنها قد تبدو هذه الأيام أشبه بنقطة في قدر ضخم.
تتمثل الطريقة المثلى لطهي المعكرونة حسبما تشير كتب الطهي الإيطالية والإرشادات المكتوبة على عبوات المعكرونة، في تسخين لدرجة الغليان ما يتراوح بين 4 و6 كوارت من ماء مملح مقابل كل رطل من المعكرونة.
أما المبررات المعتادة لهذا الأمر فهي أن كمية الماء الوفيرة سرعان ما تعود لدرجة الغليان عند إضافة المعكرونة، وتمنح شرائط المعكرونة مساحة بحيث لا تلتصق ببعضها، علاوة على تخفيفها من النشا الذي تفرزه المعكرونة، وبذلك لا تتكون طبقة «غروية» على سطحها.
ومن أجل التعرف على مدى الأهمية الحقيقية لهذه العوامل، قمت بوضع رطل من المعكرونة السباغيتي في قدر، وأضفت 2 كوارت فقط من الماء البارد وملحا بكمية تكافئ ملعقتي شاي، وقمت بتشغيل الموقد.
استغرق وصول الماء لدرجة الغليان قرابة 8 دقائق، وخلال هذه الفترة عكفت على تقليب شرائط المعكرونة من وقت لآخر كي لا تلتصق ببعضها.
واستغرق طهي المعكرونة تماما 10 دقائق أخرى. وعندما فرغت الماء من المعكرونة، وجدتها بالقوام ودرجة الملوحة التي توقعتها، وبدت لزجة بنفس القدر المعتاد، وعندما خلطتها بقليل من الزيت، بدت طبيعية تماما. وعليه، شرعت في محاولة تقليل حجم الماء بدرجة أكبر، لتصل إلى 1/2 1 كوارت.
واضطررت إلى التقليب كثيرا لأن هذه الكمية غير كافية لتغطية كل المعكرونة طوال الوقت، ومرة أخرى خرجت السباغيتي في صورة جيدة.
لكن ما السبب وراء إمكانية طهي المعكرونة بصورتها المعتادة في كمية صغيرة من الماء تبدأ باردة؟ يرجع ذلك إلى أن شرائط المعكرونة تمتص الماء بصورة بطيئة للغاية في درجات الحرارة التي تقل كثيرا عن درجة الغليان، وبالتالي لا تطرأ عليها تغييرات كثيرة خلال الدقائق القليلة التي يستغرقها الماء للوصول إلى السخونة.
ومهما كان مستوى تجمد الماء بالنشا، تبقى المعكرونة أكثر جمودا بسبب النشا، وتظل لزجة حتى إضافة الصلصة أو الزيت إليها.
وشرحت الأسلوب الذي ابتكرته في رسائل عبر البريد الالكتروني إلى اثنين من أشهر أنصار المطبخ الإيطالي.
وأجابتني ليديا باستيانيتش بقولها: «لا شك أن جدتي كانت سترفض هذه الفكرة بشدة. لكنني أراها فكرة مثيرة». وقالت مارسيلا هازان: «إنني شخصية فضولية للغاية، وأشعر بالسعادة لوجود أشخاص يستكشفون سبلا جديدة». وقد قامت كل منهما بتجريب الأسلوب الذي اقترحته.
جاء تجريب باستيانيتش عبر تجربة محدودة، بدأت بوضعها السباغيتي في قدرين من الماء البارد والماء المغلي جنبا إلى جنب، (واستخدمت 4 كوارت من الماء بدلا من ستة)، ووجدت أن المعكرونة التي تم طهيها في الماء البارد تفتقر إلى تدرج القوام الذي تتطلع نحوه.
أما بالنسبة للمذاق، قالت باستيانيتش: «شعرت أن المعكرونة المطهوة في ماء بارد فقدت بعضا من المذاق المميز لمعكرونة السيمولينا الجيدة المطهوة على نحو مناسب».
واتفقت باستيانيتش معي في الرأي على أن استخدام قدر أقل من الماء لا بأس به. وقالت: «نعم، أعتقد أنه من الممكن تقليل كمية الماء المستخدمة في الطهي بمقدار الثلث» من 6 إلى 4 كوارت. لكنها شددت على تفضيل طهي المعكرونة باستخدام ماء مغلي.
أما هازان فحاولت البدء بوضع معكرونة على شكل صدفة في كمية ضئيلة إلى حد ما من الماء البارد، ووجدت أن المعكرونة تطلبت تقليبها باستمرار للحيلولة دون التصاق المعكرونة ببعضها. وأخبرتني في محادثة هاتفية بعد التجربة: «ربما توفر بالفعل في استهلاك الطاقة، لكن سيتعين عليك بذل مجهود أكبر. إن هذا الأسلوب ليس مريحا.
ولا أدري إن كنت سأطهو المعكرونة على هذا النحو». أدى ترحيب الخبراء بتجريب أسلوبي الجديد إلى بث الشجاعة في نفسي، ما دفعني للعودة إلى العمل مجددا، وبدأت هذه المرة بماء ساخن.
ووجدت أنه من الممكن طهي المعكرونة باستخدام ما يتراوح بين 1/2 1 و2 كوارت من الماء المغلي دون أن تلتصق شرائط المعكرونة ببعضها.
وتتطلب الأشكال الأقصر من المعكرونة التقليب من وقت لآخر، أما المكونة من خيوط طويلة وشرائط فتحتاج إلى بلها سريعا بالماء البارد قبيل وضعها في القدر، ثم تقليبها باستمرار لدقيقة أو اثنتين.
وباستثناء معكرونة كابيليني (لها شكل شرائط رفيعة)، التي تنضج في وقت سريع للغاية، ووجدت أن المعكرونة المطهوة في الحد الأدنى من الماء البارد أو الساخن كلاهما كانا جيدين مع الأشكال الشائعة التي جربتها من المعكرونة، سواء كانت التي تتكون كلها من القمح، أو حتى مع المعكرونة الطازجة، وذلك طالما أن أي دقيق يظهر على السطح يتم غسله برفق في البداية.
وأفضل البدء بالمياه الباردة، وذلك لأن المعكرونة لا تلتصق ببعضها على الإطلاق وهي في قدر الطهي، هذا فضلا عن أنني لم ألحظ أي اختلاف في النكهة بعد أن تم تصفيتها من المياه وإضافة الصلصة عليها.
ورغم حقيقة أن درجة الحرارة التي تم البدء بها لا تضير، فإن هذه الطريقة تتطلب المزيد من الاهتمام. ويكون هذا عيبا في الوقت الذي تطبخين فيه العديد من الأشياء في آن واحد.
وفي الغالب إذا كنت تطبخين المعكرونة، فلتحاولي القيام بالتجربة بالبدء بدرجات حرارة مختلفة في البداية ومقادير من المياه. ويمكنك حتى طهي المعكرونة بطريقة الريزوتو، وإضافة السائل على جرعات قليلة مع الاستمرار في التقليب. ولتتأكدي من استخدام قدر متسع بالدرجة الكافية للمعكرونة حتى تنبسط تماما في قاعها، ثم قللي الملح المضاف على الماء إلى مقادير قليلة للغاية.
وهناك ميزة أخرى من طهي المعكرونة في حد أدنى من المياه لم أكن لأتوقعه أبدا،
وهي أن المياه المتبقية من طهيها، فهذه المياه تكون سميكة، إلا أنه يمكنك غرفها بسهولة عبر إمالة قدر الطهي أو المقلاة. وفعليا يكون طعمها جميل للغاية، إذ إنها غير مالحة للغاية، كما تكون متماسكة فضلا عن نكهة السيمولينا. وتكون مياه طهي المعكرونة التي تتكون جميعها من القمح لذيذة على نحو مدهش.
وغالبا ما تقترح الوصفات الإيطالية إضافة مياه المعكرونة لضبط تماسك الصوص أو الصلصة، إلا أن هذه المياه المتماسكة تعد مثل الصلصة في حد ذاتها.
وعندما أضفت القليل من زيت الزيتون على قليل من السباغيتي، ثم قلبتها تماما باستخدام مغرفتين، انتثر الزيت مثل القطرات الصغيرة على السائل، وأصبح الغطاء الدهني كريمي بصورة خاصة.
وفي كتاب «هيت» للطهي وهو الأفضل مبيعا للشيف ماريو باتالي صاحب مطعم بابو، يصف بيل بوفورد كيف خلال الوجبات المسائية تتحول مياه المعكرونة في القدر من صورتها الرائقة إلى القاتمة، ثم تصبح سميكة بعد ذلك، وهي مرحلة تبدو فيها وكأنها منفرة إلا أنها رائعة في حد ذاتها.
وهذا على أساس أن «المياه تكون أكثر سمكا من الصوص ذاته، حيث تتماسك مع كل العناصر، وتضفي على المعكرونة نكهة من نكهتها نفسها».
ويوضح بوفورد أنه يتعين أن يتم تعبئة مياه المعكرونة السميكة في زجاجات وبيعها، وهذا على أساس أن الطبخ في المنزل لا ينتج أبدا مثل هذه النوعية أبدا.
إن طهي كمية من المعكرونة في الحد الأدنى من المياه لا يمكن ألا يميز النشاء تماما، أو إحداث تلك النكهات التي يتم طهيها على فترات طويلة، إلا أنه يجعل مياه المعكرونة جيدة بدرجة مناسبة حتى يتم احتساؤها.